أنت، كاتباً، تأتي من الأبدي وتقوله في الحال. إن أتيت من الحاضر تكون صحافياً. ولكنك لا تكون كاتباً عظيماً الا إذا قلت الأبدي باللغة الحاضرة والا كنت مجرد راوية للقديم أي ناقداً في أحسن حال. ولكن الكاتب الذي لا علاقة له بالقديم أي بالأبدي يكون صحافياً تفهاً إذ الصحافي العظيم يأتي أيضاً من قديم الأزمنة أي من أبدية الحقيقة.
مشكلة الكاتب الديني انه لا يستطيع ان يتجاهل الماضي إذ لا يأتي أحد من زمانه فقط ولا يقدر ان يجتر الماضي. اليوم الأساقفة الأرثوذكس مجتمعون لمناقشة شؤون الكنيسة كما هي مطروحة وغالباً ما يكون فيها بحث الانتخابات في الأبرشيات الشاغرة. وهذا دائماً بحث دقيق يحق للمطارنة ان يختلفوا فيه لأنه قائم على تقدير كل منهم للمرشحين المطروحة أسماؤهم. وهذا الاختلاف من طبيعة البشر. الأسقف الناخب له تقواه وله خبرته وثقافته اللاهوتية وهذه كلها تختلف بين أسقف وأسقف.
طبيعي ان نختلف في الإدارة الكنسية بسبب من اختلاف الرؤى بين الأساقفة وتباين العواطف، هذا ما عدا النزاهة المفروضة عند الناخبين. لا يجمع كل المطارنة على رؤية الأحسن. فإن بينهم اختلافاً في التقوى وفي العلم والخبرة. وهذا الاختلاف يحاولون تذليله ما أمكن بتبادل الفكر في ما بينهم ولكن وحدة الرؤية لا تحصل دائماً ولو صلوا إذ الخيارات في أحوال كثيرة تكون محسومة.
يصلّون في بدء اجتماعهم على رجاء استلهام الله. ولكن هل تقبل القلوب نعمة الله إذا نزلت؟ هذه صعوبة الفكر في كل مجتمع يعتبر صادقاً انه يستلهم الله.
الكنيسة الأرثوذكسية صعبة إدارتها لأنها قائمة على اتفاق مطارنة مجتمعين. والمطارنة بشر مختلفون في العلم أولاً وفي الخبرة وفي الاطلاع على سيرة كل مرشح للأسقفية. رؤساء الدين ولو أتقياء يمكن ان يختلفوا. انتخاب المطران والبطريرك مهما فعلنا يبقى انتخاباً بشرياً نسعى فيه سعياً أخلاقياً. وليس من انتخاب يضمن وصول الرجل الأصلح.
المجمع المقدس يبقى محاولة بشرية في المنطلق ما لم تنزل نعمة الله وتغير كل شيء. النظام المجمعي بلا تفرد سلطان يبقى الأفضل إذ لا بد ان تتوافر فيه نيات سليمة وعالمة. كل نظام في العالم بشري ويحمل ضعفات البشرة. ولكن في المبدأ عندنا ترجيح على ان الأكثرية تخطئ أقل من الفرد.
النظام الأرثوذكسي دقيق جداً وصعب وأظن ان صعوبته الكبرى في هذا انه يفترض ان الإدارة الكنسية هي دائماً في أيد طاهرة وقلوب مؤمنة وعقول ذكية.
التقاء المطارنة هيئة واحدة يدعى مجمعاً مقدساً. هل هذا النعت يأتي من تصديق ان الله يلهم الأساقفة دائماً وانهم دائما يطيعونه؟ مشكلتنا ان كل اجتماع بشري فيه من البشرة أي الانفعالات. القديسون قلائل. ولكن ليس لنا خيار الا النظام المجمعي. الناس كلهم يحسبون ان المسؤولين إذا اجتمعوا لهم نصيب معقول من قول الحقيقة والإتيان بأفضل الحلول. في حكم الفرد تسطع المصالح الفردية. مبدئياً إذا كثر المجتمعون يقتربون من الحقيقة. يمكن ان تقتنع بحكم الفرد إذا ثبت انه قديس عالم. ولكن الناس مقتنعون ان كثرة الآراء إذا صدق أصحابها وتطهروا ترجح الحقيقة وليس عندنا في الحقل الفكري في هذه الدنيا إلاّ الترجيح.
قناعة الناس جميعاً ان الكثرة أقرب إلى الحقيقة من الفرد الواحد وانها غالباً هي الأضمن. ليس لأحد إذا تكلم تأكيد من الله انه على حق. الفكر بما فيه الفكر الديني مسعى. ما من أحد في الكنيسة يقول إن مئات الأساقفة إذا اجتمعوا هم آلياً على حق. هذا تعرفه بعد اجتماعهم وبتصديق مجمع لاحق. ولكن هذا أيضاً غير مؤكد بالمطلق. ما من مجمع بحد ذاته له ضمانة العصمة. العصمة تؤكدها الأجيال اللاحقة. الناس ناس. المجمع مسعى وليس ضمانة بمجرد انعقاده. الحقيقة المسيحية لا تظهر من آلية الاجتماع ولكن مما تبقى من قناعة في الكنيسة.
المطران جورج (خضر)
عن جريدة “النهار”، السبت 27 حزيران 2015