أرادت الكنيسة أن تفتتح موسم الصوم باستغفار الإخوة بعضهم من بعض، وكأنّ بها تجعل الغفران شرطًا ملزمًا لولوج هذه الفترة الزمنيّة المهيّئة للفصح.
يبدو أنّ التحدّي اليوم في ظلّ المصاعب التي يمرّ بها المؤمنون على الصعد كافّة، الروحيّة منها والاقتصاديّة والاجتماعيّة والصحّيّة، وسط تساؤلات حول المصير في هذا البلد وهذه المنطقة، هو أنّ الغفران تراجع على لائحة الأولويّات وعلت مراتب اليأس والاتّهامات، والشتام والتخوين وسط ضجيج إعلاميّ يبثّ سموم الكراهية والانحلال الأخلاقيّ.
أين نحن من الغفران ولا يمرّ يوم لا نسمع فيه أنّ أموالنا نهبت وبلدنا أفلسه المؤتمنون عليه، وأنّ مسؤولينا لا يعرفون إلّا الكذب لتغطية جرائمهم، فكيف يتوقّع منّا الله أن نغفر لمن أساء إلينا وأوصلنا إلى هذا الوضع المتردّي. فهل يجوز الغفران لهؤلاء أم أصبح الغفران شعرًا نتغنّى به وهو بعيد كلّ البعد عن واقعنا؟
المصاعب لا تتوقّف ولن تزول، لكنّ إيماننا اليوم بيسوع المخلّص هو مرساة الأمان وسط كلّ الأزمات، وإن استعرضنا بلمحة سريعة حياة يسوع الناصريّ بين الميلاد والصلب نرى ولادة متواضعة جدًّا دون درجات الفقر، هربًا إلى أرض غريبة، تآمر سياسيّي ذلك الزمان لقتل يسوع ومجزرة بحقّ أطفال أبرياء، فساد السياسيّين وكمّ الأصوات المنادية بالحقّ كيوحنّا المعمدان، التآمر على يسوع بين السلطتين الدينيّة والمدنيّة لأنّه هزّ عروش المتسلّطين، عشّارون وجباة يسرقون أموال الناس وتجّار يتحكّمون في البشر في بيت الربّ. لا جديد تحت الشمس، فمعاناة البشريّة هي ذاتها على مرّ العصور وإن تغيّرت الأسماء والظروف.
صورة مأساويّة لهذه البشريّة المجرّحة حوّلها يسوع، بتعليمه وموته وقيامته، إلى قصّة حبّ يدعو إليها الجميع ليحيوا كخليقة جديدة. فالعشّار صار مثالًا للتوبة، وقائد المئة الوثنيّ فاق إيمانه إيمان الشعب المختار، والمرأة الخاطئة تعمّدت بدموعها وتبعت يسوع، واللصّ على الصليب صار باكورة الفردوسيّين. الجامع بين كلّ الذين سبق ذكرهم هو أنّهم خطأة لكنّهم عرفوا محدوديّتهم وضعفهم وقبلوا يسوع مخلّصًا لهم. هؤلاء الذين كانوا مرذولين ومكروهين قبلهم يسوع وأحبّهم وبذل نفسه من أجلهم كما من أجلنا جميعًا.
هل يعفينا هذا الكلام من مسؤوليّة أن نكون شهودًا للحقّ؟ أو أن ننشط للدفاع عن حقّنا وحقّ آبائنا وأهلنا والفقراء في وطننا بالحياة؟ أو أن نطالب بمحاسبة المسؤولين والمقصّرين؟ لا ثمّ لا. مسؤوليّتنا هي على قدر محبّتنا، ومحبّتنا تقتضي العمل في سبيل الخير ومحاربة الخطيئة لا الخطأة. واجبنا أن نحاسب على خطيئة لانتظام المجتمع ولكن علينا التفريق بين المحاسبة والكراهية، بين المحاسبة على عمل خاطئ وإدانة شعواء للإنسان الساقط في الخطيئة.
لا يقدر على المغفرة من كان متكبًّرا وممتلئًا من ذاته، لكنّ المغفرة ممكنة لأتباع يسوع الذي أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتّى الموت موت الصليب (٢ فيليبّي ٢: ٦-٨). فمن أراد أن يتبع يسوع عليه أن يسحق أناه ساجدًا أمام الصليب، طالبًا مغفرة خطاياه وغافرًا لمن أساء إليه. هذا التواضع يبدّل نظرتنا إلى الآخر من نظرة إدانة إلى تجلّي الأخر كطريق عبور إلى يسوع.
الغفران لا يقدم عليه إلّا الشجعان، هؤلاء الذين يرون وجه يسوع في الآخر على هشاشته، ولا ينتظرون أن يقبل غفرانهم من العدوّ أو المسيء إليهم، لأنّ جائزتهم تأتي من فوق مِمَّن أوصاهم بإنّهم في هذا العالم وليسوا من هذا العالم، وأهداهم بصليبه وقيامته الفرح الذي لا ينزع منهم.