قرأت في كلامك الذي أوحيته لأنبيائك ودوّنوه في كتبك المقدَّسة وبه أعلمتنا عن محبتك. وقرأت في هذه الكتب ما فعلناه وما باديناك به في تاريخ بشريتنا، فعلمت أن محبتك لا توصف وليس لطول أناتك من قياس، لأننا ونحن مكبلون بضعفات هذا عددها أرسلت كلمتك صائراً مثلنا لأجلنا، ما نحن عليه، ما خلا الخطيئة، وأظهرت لنا حبك الأعظم (ليس حب أعظم من هذا أن يضع الإنسان نفسه عن أحبائه) أردت معه وبه أن تعيدنا أنقياء وأطلت أناتك وتركت لنا حريتنا. لقد كانت الحياة عنده وفي كلماته وهَدَفَ أن ينزع الخطيئة من عالمنا ويقلع جذورها ويدمِّر بذورها ولكننا خيَّبنا أملك جماعاتٍ وفرادى وتوجهنا عكس ما دعوتنا اليه وأطلت آناتك وجعلت من القلة التي أرضتك منارة ومثالاً أما نحن فقد أحببنا الظلمة أكثر من النور وقد نبهتنا منذ زمن بعيد أن من يمشي في الظلام يتعثر. لقد تعثرنا كثيراً وأحببنا الآلام أكثر من النياح وأثقلنا حياتنا بأحمال غير لائقة وكلنا علم أنك تطيل أناتك علينا وترحمنا كعظيم رحمتك وتغفر آثامنا. صرنا نتدلّلُ عليك ونسبح في الغنج جاعلين همَّك وراء ظهورنا وصارت قلوبنا بعيدة عنك وأغلبنا قد نسيك أو اخترع لذاته صورة لك لا تشبهك في الكثير. وعلى الكل تطيل أناتك وترحمهم. لقد نسوا أنك أب محب وأن الأب المحب مؤدِّبٌ لبنيه يصوّب طرقهم بكل لطفٍ وحزم. لقد فهمنا طول أناتك خطأ فتمادينا في الدلال ولم نفهمها إصلاحاً وتجديداً.
وما نعرفه عن تأديبك لا يرقى الى الحروب التي نعانيها والكوارث التي تأخذ آلاف الناس وهم في ذروة التلهي والضياع. بالحقيقة إن طول أناتك لا تسمح بذلك بل خطايانا وكبرياؤنا تقودنا الى هذه الكوارث ونحن نعلم أننا بمكانتنا عندك قد ربطت مصير كل الخليقة بمصيرنا ولهذا تشوّهت عندما وقعت خطيئة الجدين الأولين التي لا تعد شيئاً أمام ما انغمس به البشر من الخطايا والأدناس، فأخرجت الأرض شوكاً وحسكاً.
وكما أطلت أناتك يومئذ هكذا حتى اليوم تطيل آناتك علينا آلاف المرّات. ولأن قلبك طيِّب وأنت واضح في كل ما تفعل علمتنا أن المحبّة تجلب لنا النعم وأن الشرَّ يجلب لنا الفناء.
لقد قلت لنا على ألسنة قديسيك أنك تنتظرنا في كلِّ زاوية ومنعرج وعلى مَشْرِفِ كلِّ تلٍّ وسفح، قبل كل مرحلة من مراحل تصرُّفاتنا وبعدها. ولأنك طيب القلب وكلُّك محبة طمعنا بك واستغلّينا هذه الطيبة غير عارفين أن الطمع ضَرْ ما نفع. وبالطمع برحمتك نملّك أنفسنا للخطيئة التي هي أذكى منا بما لا يقاس ولسنا نحن أفضل من كثيرين من الذين سبقونا، ولا أشطر منهم، ومع ذلك فقد وجدهم الموت وهم في حالة الطمع برحمتك والتسويف معتمدين على طول آناتك.
أنت تحب الصديقين وترحم الخطأة والفرق كبير بين الصديقين وبين الذين ترحمهم فأولئك سالمون وهؤلاء قد جمعوا برحمتك بعد كسرهم. ومن يخلص برحمتك يخلص لأنك تطيل أناتك عليه أما الصديقون فيخلصون بمحبتك.
نبتهل إليك يا طويل الأناة برغم عدم استحقاقنا أن تطيل أناتك على العالم وتجبره غصباً عنه أن يعمل إرادتك. فأخرج البلد ونحن معه من كلِّ الضيقات وبيدك الكليّة القداسة أنقذنا من جب الفساد. فبدون طول أناتك لن نجد عوناً ولا رحمة يا جزيل الرحمة والطويل الأناة.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، السنة 15، العدد 4، الأحد 24/1/2016