ما هو الهدف الأخير للإيمان المسيحيّ الذي لأجله تمّ التدبيرُ الإلهيّ. لقد تتوّج التدبير الإلهيّ “بالظهور”، الذي عيّدنا له في عيد الغطاس قبل أيّام. حيث ظهر الله كثالوث بشكل جليّ وأظهر ما هي مسرّته وإرادته علناً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررتُ، فله اسمعوا”. فإذا كان “الابنُ” الوحيد هو ما يُسّرُ الآبَ، فإنّنا أيضاً نسرّه عندما نكون كابنه الوحيد، لهذا تابع صوت الآب قائلاً: “فله اسمعوا”. لقد ظهر الله ليعرف الإنسانُ أيَّ مظهر يجب أن يأخذ.
رتّبت الكنيسةُ أن تُتلى في هذا اليوم المبارك، في الأحد بعد الظهور، كلماتُ بولس التي تُعلن غايةَ مجيء ربّنا يسوع المسيح (الذي نزل وصعد) وغاية المواهب الفرديّة وخدمتها الجماعيّة في الكنيسة، وهذه الغاية تتلخّص في كلماته: “لكي ننتهي جميعنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى مقدار قامة ملء المسيح”.
كلّ ما تملكه الكنيسة من خيرات ومؤسّسات ومواهب في أبنائها، وكلّ مَن يعمل في الكنيسة من كهنة وأنبياء ومعلّمين… لكلّ ذلك هدف واحد وهو “تكميل القدّيسين”. الكنيسة هي مختبر ماديّ وروحيّ غايته “إعادة الجبلة”، أي تتناول الإنسان الداخل إليها – من يوم المعموديّة – لتجبل منه خلقة جديدة على صورة “ابن الله المتجسّد” الذي سُرّ به الآب. لما نظر الآبُ يسوعَ المسيح، الإله والإنسان، أي حالة الإنسان المتألّه، عندها سرّ، وأعلن ذلك في ابنه الوحيد. مسرّة الأب تكتمل في كمالنا، على صورة ابنه المتجسِّد.
لهذا الكمال المسيحيّ أساسان. الأساس الأوّل هو صورته المتطابقة مع صورة الرب يسوع. والأساس الثاني هو مكانه، وهو الكنيسة بحياتها المشتركة كجسد للمسيح حيّ. هناك بُعدان لكلمة “ملء قامة المسيح”، بعدٌ شخصيّ يعني التصوّر على صورة المسيح، وبعدٌ جماعيّ يعني التصوّر على شكل الكنيسة التي هي جسده.
هناك “تكميل القدّيسين أي تقديس المؤمنين وتنشئة قدّيسين. وهناك “عمل الخدمة لبنيان جسد المسيح”، أي العيش معاً في رؤية كنائسيّة وتكوين الكنيسة. بالحقيقة لا كمال ولا قداسة فرديّة، بل القداسة تتمّ عبر عمل الخدمة لبنيان جسد المسيح. الكمال المسيحيّ ليس شأناً “صوفيّاً”، أي هو شيء من التعلّق الفرديّ بالله وبحبّه والهيام في طلبه فقط، بل هو كمال بملء قامة المسيح، الذي تمّت ساعة مجده حين بذل نفسه من أجل الآخرين على الصليب وقال: “قد تمّ” – قد كَمُلَ.
“كونوا أنتم كاملين، كما أنّ أباكم السماويّ كامل” (متى 5، 48)، هذه أيّة تكرّر ما جاء في العهد القديم “كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدوس” (لاويين 11، 45). يوم المعموديّة يُوهب المعتمِد سرّ الميرون المقدّس وهو الختم على بدء مسيرة “الكمال” المسيحيّ وحياة التقديس. فكلّ مكرّس – كما في سرّ الميرون – ينبغي أن يكون سليماً كاملاً لا عيب فيه. “تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب”، يقول الربّ يسوع. وعندما أراد أن يعلّم تلاميذه مَن هو الأوّل غسل لهم أرجلهم. الصورة الحيّة للإنسان الكامل مسيحيّاً هي صورة المسيح لا سواها. لكلّ مؤسّسة وحزب وحضارة صورة تربّي على أساسها، قد تكون المحارب أو العالم أو المتديّن أو الرياضيّ أو الغنيّ… ولكن لنا نحن، المسيحيّين، هي يسوع المسيح.
يؤمن بولسُ الرسول أنّ الله أعطانا – لكلّ واحدٍ منّا – مواهب ليس على مقدار ما يستطيع (كما في مثل الوزنات) وحسب، بل بفيض أكبر على “مقدار مواهب المسيح”، أي أكثر ما يمكن أن يوهب له، بفضل الحبّ الإلهيّ. كلّ هذه المواهب هي “لتكميل القدّيسين” أي لتقديس الإنسان الذي يحملها والذي نعامله بها.
المبدأ الأوّل للكمال المسيحيّ هو إكرام النعمة الإلهيّة التي تأتينا بفيض ما بعده فيض، ولا يحدّه إلاّ ضعفنا! إذن القداسة المسيحيّة تبدأ بتأهيل نِعَم الله ومواهبه المعطاة لنا. تتحقّق القداسة أي الكمال المسيحيّ بالجهاد الروحيّ الشخصيّ “بالأتعاب والأسهار والصلوات”. دون هذا الجهاد الشخصيّ لا يمكن للنعمة الإلهيّة أن تنمّينا وتصوّرنا على صورة يسوع المسيح. فالنعمة معطاة لكنّها ليست فرضاً بل هبة، تستحقّ أن نؤهّلها بجهادنا.
إنّ ممارسة المواهب المسيحيّة الروحيّة، التي هي ثمار الروح القدس، ليست شؤوناً فرديّة. فالمحبّة والوداعة والتواضع وطول الأناة… كلّها ليست فضائل لتبني “الإنسان الفضيل “وحسب، بل هي طريقة خدمة ومعاملة تبني “جسد المسيح”، الكنيسة. هناك خطأ دارج في فهم المواهب الروحيّة كفضائل فرديّة يتميّز بها الإنسان. ليس هذا هو مفهوم الموهبة مسيحيّاً. الموهبة هي بالأساس ليست قدرة شخصيّة ترفعنا بل هبة إلهيّة نحن مسؤولون عن خدمتها.
ما نسمّيه “مسحنة” هو ما نعني به “القداسة”. ولكن هذا المعنى عند بولس الرسول يعني أمرَين. الأمر الأوّل قداسة المؤمن والأمر الثاني قداسة المؤمنين معاً – الشعب. لبولس الرسول “ملء قامة المسيح”، أي جسده الكامل يعني: أوّلاً ملء مواهب المسيح (التواضع- المحبّة- السلام- وكلّ ثمار الروح…) على المستوى الشخصيّ الفرديّ، ويعني بالوقت ذاته ثانياً اكتمال جسد المسيح الذي هو الكنيسة، أي على المستوى الجماعيّ لتحقيق حياتنا الجماعيّة بالكليّة بشكل كنسيّ.
إنّ الجهاد الروحيّ الفرديّ للقداسة لا يفيد حين لا ينصبّ في تقديس الجميع. قامة المسيح ليست صورة كلّ فردٍ منّا، بل هي أيضاً جسده أي صورة الكنيسة، صورة حياة الجميع معاً.
سرَّ الكمال المسيحيّ ليس “الفضيلة” كما في الأديان والفلسفات عموماً، وأرقى نماذجها هم المتصوّفون. سرُّ الكمال المسيحيّ هو المحبّة، التي هي غاية الفضائل جميعها. لذلك “المصلوب” هو صورة الإنسان الممجَّد والكامل.
على معيار هذه المحبّة المصلوبة سوف يقيس الربّ ويفصل بين الجداء والخرفان وبين جماعة اليمين واليسار في “ذلك اليوم” (1 تس 3، 12-13)، ولهذه اللحظة نستعدّ ونتعب ونسهر.
لا قداسة إلاّ في الخدمة، ولا خدمة إلاّ من قدّيسين. لا لفضيلة شخصيّة لا تخدم، ولا لخدمة دون أساس فضيلٍ. كلّ هذه الصور الغنيّة تصبح واضحة في صورة عمل “الجسد” الذي يتمتّع بأعضاء صحيحة ولكن لا يكون الجسد صحيحاً إذا تعطّلت أو تألّمت أعضاءٌ أخرى. “ملء قامة المسيح” غاية لحياتنا في جهادنا الشخصيّ مع النعمة الإلهيّة المنسكبة علينا بفيض، وهي غاية طريقة تواجدنا في جسد حيّ واحد. الموهبة تخدم الوحدة، والوحدة تُكرِم الموهبة.
لقد أُعطيتْ لنا المواهب بفيض “لنَصِلَ جميعنا إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله إلى الإنسان كامل على مقدار ملء قامة المسيح”. هذه مسرّة الآب في اتّحاد الإلهيّ بالبشريّ. اليوم الأحد الأوّل بعد الظهور ننطلق فيه إلى تحقيق هذه الغاية. لقد ظهر يسوع بملء قامته في المعموديّة لنظهر نحن بملء مسيحيّتنا في حياتنا. سُكِبَتِ النعمة لتتنقّى المواهب وتخدم قداستنا وكنيستنا، آمين.
المطران بولس (يازجي