“الحقّ الحقّ أقول لكم: إنّ مَن لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يتسور من موضع آخر، فهو سارق ولص”.
قال الرّبّ يسوع المسيح عن نفسه إنّه الرّاعي الصّالح. وقال أيضًا: “أنا هو الباب”. على هذا، قال: من لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف كان سارقًا ولصًّا. حظيرة الخراف هي الكنيسة. الباب هو الرّبّ يسوع. والّذي يدخل من الباب هو راعي الخراف. أن يدخل راعي الخراف من الباب معناه أن يكون أمينًا لمَن هو الباب. يدخل من خلاله، بمعنى أنّه يأتي كمنتَدَب عنه. ليس أحد، في كنيسة المسيح، يتولّى رعاية الخراف من ذاته. عليه أن يكون مرسَلاً من لدن سيّد الخراف، من لدن راعي الخراف الصّالح. إن لم يكن أيقونة للرّاعي الصّالح للخراف، فإنّه، بكلّ بساطة، يكون دخيلاً، يكون سارقًا ولصّا، لا يكون في المكان المناسب. راعي الخراف يدخل من الباب، ليصير هو نفسه الباب المفضي إلى الباب، الّذي هو باب ملكوت السّموات، الرّبّ يسوع المسيح. “به كان كلّ شيء، وبغيره لم يكن شيء ممّا كوّن”. إذًا، نحن، إذا ما كنّا رعاة، ندخل من الباب؛ لنكون على صورة الباب؛ لكي يدخل النّاس بنا إلى الرّبّ يسوع، ومن ثمّ لكي يكون الرّبّ يسوع وحده هو الباب إلى ملكوت السّموات. الرّبّ يسوع يدين كلّ دخيل في كنيسته؛ يدعوه سارقًا ولصًّا. ماذا يفعل السّارق؟. السّارق يأخذ ما ليس له. وماذا يفعل اللّصّ؟. اللّصّ يختلس ما ليس له. السّارق يأتي بادّعاء أنّه هو الرّاعي، وأنّ الرّاعي هو أرسله. وهذا يكون زورًا. لذلك، يسلك في الرّياء، في الكذب، في الضّلال… يأتي ليذبح ويهلك. هذا ما يفعله السّارق واللّصّ. يأتي ليدّعي ما ليس له، ليختلس المجد الإلهيّ… والسّارق، متى فعل ذلك، يعرّض الخراف للتّشتّت.
لكن، لماذا يسمح الرّبّ الإله بأن يكون هناك، في كنيسته، سرّاق ولصوص؟. إذا كان هو الرّاعي الصّالح؛ وإذا كان يعرف، تمامًا، مَن هو الرّاعي الّذي على صورته، والرّاعي الّذي ليس على صورته؛ فلماذا يترك السّرّاق واللّصوص يعيثون فسادًا، أحيانًا، في كنيسته، في حظيرة خرافه؟!. الحقيقة أنّ الخراف، متى كان هناك سرّاق ولصوص، لا شكّ في أنّها تتألّم، وتعاني. أي السّارق واللّصّ يذبح. لفظة “إهلاك”، هنا، لا تعني أكثر من أنّه يذبحها ويهلكها بالجسد، لكنّه لا يستطيع أن يهلكها بالرّوح. الحقيقة أنّ السّرّاق واللّصوص، في كنيسة المسيح، ولو كان علينا أن نحذرهم، ولو كان على الكنيسة أن تحذر دخولهم إلى الحظيرة، غير أنّ هؤلاء لا يستطيعون شيئًا ضدّ مسيح الرّبّ، بل لأجل مسيح الرّبّ. هم، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، يتمّمون مقاصد الله. مقاصد الله لا تتمّ، فقط، من خلال الرّعاة الصّالحين. لو كانت تتمّ، فقط، من خلال الرّعاة الصّالحين، لَما سمح الرّبّ الإله بغير الرّعاة الصّالحين. فإذا كان قد سمح بأن يكون هناك رعاة فاسدون، فهذا، أيضًا، في تدبيره، يكون لأجل المنفعة. الخراف تتألّم؟. أجل. الخراف تعاني؟. أجل. لكنّ آلام الخراف ومعاناتها لا تذهب سدى. ليس شيء، في حياة المؤمنين، إلاّ ويدخل في اعتبار خلاص الله لشعبه، وتدبيره له.
نحن نظنّ أنّ السّرّاق واللّصوص يهدّدون كنيسة المسيح. الحقيقة أنّهم لا يستطيعون أن يهدّدوها، لأنّ الرّاعي الصّالح حاضر، ويفعل من خلالهم، ومن خلال غيرهم. الرّبّ الإله يفعل من خلال الّذين يحبّونه، ومن خلال الّذين لا يحبّونه؛ من خلال الأمناء، ومن خلال غير الأمناء. لذلك، نحن لا نخشى على كنيسة المسيح. السّرّاق واللّصوص يسمح بهم الرّبّ الإله للتّنقية والتّأديب. هذا لا يبرّر السّراق واللّصوص، لأنّهم لا يعملون على نحو واعٍ في رعاية خراف المسيح. لذلك، لا فضل لهم، أبدًا، في ما يجري. لكنّ الرّبّ الإله، الآخذ الحكماء بمكرهم، هو يحوّل عبثهم إلى مراهِمَ، إلى أدوية، إلى علاجات. السّرّاق واللّصوص هم مصفاة. الرّبّ الإله يعطينا أن نتصفّى، دائمًا، من الزّغل الّذي فينا، والّذي في ما بيننا. كذلك الأمر، كلّ معدن ثمين لا يتنقّى، إلاّ بالنّار. هل هذا معناه أن نبرّر وجود السّرّاق واللّصوص؟. لا، أبدًا. السّارق نقول عنه حقيقة ما يأتيه من سرقة ولصوصيّة. ومع ذلك، لا نيأس. قول الرّبّ الإله لتلاميذه، وللّذين كانوا يسمعونه، عن معلّمي إسرائيل، في زمانه، أي عن الفرّيسيّين، ورؤساء الكهنة، والكتبة… قوله لهم، بشأنهم: “كلّ ما قالوه لكم اسمعوه. أمّا مثل أعمالهم، فلا تعملوا”. هذا معناه أنّ على التّلاميذ أن يكتفوا بالتّعليم، في هذه الحال، شرط أن يكون التّعليم سليمًا. إذا لم يكن التّعليم سليمًا، فلا يجوز، أبدًا، الإبقاء على السّرّاق واللّصوص. أمّا إذا كان تعليمهم سليمًا، فإنّنا نقتبله، ونعتبر أنّ الرّبّ الإله يؤدّبنا بهم ومن خلالهم. في الكنيسة، لا مساومة، في شأن التّعليم القويم، أبدًا. لا نساهم على الأرثوذكسيّة في شيء، على الإطلاق. من جهة أخرى، إذا كان بعض الرّعاة يشرد، فهذا نعتبره، أيضًا، بسببنا.
عندما كنت شابًّا يافعًا، سمعت، مرّة، كاهنًا يقول، مجيبًا على اعتراض يطال سوء اهتمامه بالرّعيّة، وعدم انتباهه لها: “كما تكونون يُولّى عليكم”!. هذا مؤسف، ومؤلم جدًّا، ولكن، هناك بعض الحقيقة في ما يقول!. عندما تكون الرّعيّة غير مبالية، فإنّ الرّبّ يرسل إليها راعيًا غير مبال!. صحيح أنّ الرّاعي هو نموذج، أو يفترض به أن يكون نموذجًا صالحًا للرّعيّة. لكن، صحيح، أيضًا، أنّ الرّعيّة هي الّتي، بمعنى، أحيانًا، تجعل الرّاعي على صورتها، بسبب عدم مبالاتها. عندما لا نكون مستأهلين لأن يرعانا الرّبّ الإله، فإنّ الرّبّ الإله يتخلّى عنّا!. ألم يقل: “اطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده”؟!. حين لا يكون النّاس مبالين بالحصاد، فإنّ الرّبّ الإله لا يرسل فعلة!. لكن، إذاكانوا مبالين، غيارى، أو إذا كان، على الأقلّ، بعضهم كذلك؛ فلأجل القلّة، يصفح الرّبّ الإله عن الكثرة، ويرسل رعاة صالحين لخرافه!. سهل، دائمًا، أن تُجَرِّم الرّعيّة رعاتها. لكن، أليس من واجب الرّعيّة، أيضًا، أن تدين نفسها، أن تُجرِّم نفسها؟!. كأنّ الرّبّ الإله يقول لنا: “هذا ما تريدونه. فليكن ما تريدونه راعيًا عليكم”!. نقول عن النّاس إنّهم يصيرون لامبالين، عندما يكون هناك رعاة غير مبالين. هذا صحيح. لكن، صحيح، أيضًا، عندما يكون هناك شعب معاند في لامبالاته، أنّ الرّبّ الإله يضربه بالعمى. لذلك، وجود السّرّاق واللّصوص ليس مدعاة، فقط، لتنقية الكنيسة منهم؛ بل وجودهم، أيضًا، مدعاة للتّوبة، على الأقلّ لدى القلّة.
يتساءل المرء، أحيانًا كثيرة، لماذا يتحدّث الرّبّ يسوع عن القطيع الصّغير؟!. بأي معنى يتكلّم على القطيع الصّغير؟!. يتكلّم الرّبّ الإله على القطيع الصّغير بمعنى أنّ له، في كلّ رعيّة، أو ما يسمّى رعيّة، خاصّةً. هذه الخاصّة هي القطيع الصّغير. وهي، بأمانتها لله، ومحبّتها له، وصومها، وصلاتها، ودموعها، وحرصها على ما لله، تكون بمثابة الخميرة الّتي تخمّر العجين كلّه، في الرّعيّة، وإلاّ تكون الرّعيّة فطيرًا. نحن بحاجة إلى الخمير!. لو كان القطيع الصّغير يقوم بعمله التّخميريّ كما يجب، لَتحسّنت أحوال الرّعيّة، لَتحسّنت أحوال الحظيرة تحسّنًا كبيرًا. بالنّعمة، الله يغيّر النّاس. بالقّلة الرّبّ الإله يغيّر الكثرة. الموضوع ليس موضوع تعليم، مع أنّ التّعليم مفيد، إذا كان الإطار إطار أمانة لله. لا نحسبنّ أن الرّعيّة تكون بألف خير، عندما يأتي النّاس إلى الكنيسة، بالضّرورة؛ أو عندما تكون هناك مداخيل كبيرة، في الكنيسة؛ أو عندما تُبنى كنيسة بأموال كثيرة، وتُجهَّز بكلّ التّجهيزات البهيّة. معاييرنا، دائمًا، في الحكم على سلامة الرّعيّة، هي معايير ومقاييس خارجيّة. إذا ما أردنا أن نعرف ما إذا كانت رعيّة ما أمينة لله، فعلينا أن ننظر، أوّلاً، إلى حال الفقراء فيها. هل هناك شغف فيها لخدمة الفقير، والمريض، والمسنّ، والأرامل؟. أهذا هو شغفنا، أم لا؟. بِمَ نهتمّ؟. ما هو همّنا، في الرّعيّة؟. همّنا، في الرّعيّة، أوّلاً، ينبغي أن ينصبّ على المقطوعين، والمحرومين، والمتألّمين، والّذين هم في كلّ شدّة وألم وضيق. إذا كان هذا هو همّنا، سواء على مستوى الجماعة، أم على المستوى الشّخصيّ؛ إذ ذاك، تكون الرّعيّة في وضع سليم، أو مقبول. ساعتئذ، إذا صلّينا، تكون الصّلاة مقبولة، عند الله. الصّلاة والصّوم، إذا لم يكونا قائمين على محبّة الفقير، والغريب، والمريض، والمسنّ، والمسجون… لا يكونان مقبولين. أمّا إذا كانا قائمين على هذه الشّؤون، فبصورة تلقائيّة، تكون الصّلاة صلاة، والصّوم صومًا عن حقّ. الصّلاة تنبع من المحبّة، من الحرص على الآخرين، على أوجاعهم، على خلاصهم. وكذلك الصّوم. لا يكفي أن يصوم الإنسان، لكي يكون صومه مقبولاً عند الله. إذا لم يكن صومه مغمَّسًا بالحرص على الفقراء والمساكين؛ فإنّ هذا الصّوم لا تكون له قيمة، على الإطلاق، بل يكون مجرّد امتناع عن الطّعام. والامتناع عن الطّعام ليس، بالضّرورة، صومًا!. كما أنّ إتمام الطّقوس لا يكون، بالضّرورة، صلاة!. بسهولة، يمكن الإنسان أن يحوّل الصّوم والصّلاة إلى تمثيليّة!.
لذلك، نحرص، في كنيسة المسيح، على أن ندخل من الباب. هذا هو الباب. الدّخول من الباب معناه “مَن أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، كلّ يوم، ويأت ورائي”. أنا أطعمت الجيّاع، أنتم تطعمونهم. أنا اهتممت بالمرضى، أنتم تهتمّون بهم. أنا علّمت النّاس كيف يتوبون ويخلصون، أنتم تعلّمونهم كيف يتوبون ويخلصون. هكذا، تدخلون من هذا الباب. هكذا، تصيرون رعاة للخراف على صورة راعي الخراف، صاحب الخراف، الرّاعي الصّالح للخراف. المحبّة لا تأتي، بالضّرورة، من الصّوم والصّلاة. الصّلاة والصّوم يأتيان من المحبّة. لذلك، السّرّاق واللّصوص، فيما بيننا، في كنيسة المسيح، تأديب لنا، أيقونة فاسدة، ولكن واقعيّة، عنّا. لا يقولنّ أحد “لكنّ النّاس بحاجة إلى رعاية”. هذا صحيح، النّاس بحاجة إلى رعاية. لكن، إذا لم يرع القطيع الصّغير نفسه على محبّة الله، فإنّ الرّعيّة لا تكون، والرّعاية لا تنفع. المسؤوليّة الأولى تقع على القطيع الصّغير، في كنيسة المسيح. الكنيسة تنمو بدموع هؤلاء، بشغفهم، بأمانتهم، بفقرهم، بمحبّتهم. والرّبّ، من خلالهم، يعطي الجميع كلّ شيء. تلاميذ الرّبّ يسوع، لأنّهم سلكوا على هذا النّحو، أغنوا الكنيسة، أغنوا العالم. ماذا قال الرّسول بولس؟. قال: “نحن فقراء ونغني كثيرين”. بماذا نغني كثيرين؟. بالنّعمة الإلهيّة. لأنّنا نحن اقتبلنا الفقر، إراديًا، ونسلك فيه؛ لهذا السّبب، نغني كثيريين. نحن بلا كرامة. أمّا أنتم، فلكم كرامتكم. هذا لأنّ القطيع الصّغير لا يطلب الكرامة لنفسه. لهذا السّبب، يُكرم الرّبّ الإله حظيرة الخراف، يُكرم الأكثرين. إذًا، رعاتنا، بالدّرجة الأولى، إذا لم يكن وراءهم قطيع صغير يرعى، برحمة الله، وبالصّلاة الحقّ، وبالصّوم الحق، وبالمحبّة الحقّ؛ فإنّه لا يمكنهم أن يُفلحوا في الرّعيّة، ولا للرّعيّة أن تثبت في الحقّ. فمن له أذنان للسّمع فليسمع.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 5حزيران 2016