المتعارف عليه، منذ القديم، أنّ عناصر الوجود أربعة: الماء، والهواء، والنّار، والنّور. هذه العناصر الأربعة تجتمع كواحدة، كَمِن مصدر واحد هو روح الله. الرّوح هو النَّفَس، هو الهواء. والرّوح هو الماء: “من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حيّ”. والرّوح هو النّور: الله نور. والرّوح، أيضًا، هو النّار. إلهنا نار آكلة، لا بالمعنى المجازيّ، بل بمعنى أنّه لا يقاربه أحد ويعيش إلاّ إذا هو قرّبه بالنّعمة. إذا قلنا “عناصر أربعة”، فهذه العناصر هكذا تتمثّل، كأربعة، في حياتنا، نحن البشريّين. أمّا أصل هذه العناصر، إذًا، فروح الرّبّ، وهي واحدة فيه.
الهواء – النَّفَس هو الّذي فيه كانت الحياة. والرّبّ الإله نفخ في التّراب، كما تفل الرّبّ يسوع وصنع طينًا وطلى بالطّين عيني الأعمى، قلبًا جديدًا، فصار التّراب نفْسًا حيّة. إذًا، منطلق الحياة هو النَّفَس. النَّفّس والماء والعنصران الباقيان متعادلة. اليهود قالوا، فيما قالوا، شيئًا جميلاً في هذا السّياق. لأنّهم اعتبروا أنّهم يستمدّون حياتهم من مسيح الرّبّ، قالوا: “المسيح نَفَس أنوفنا”. هم قصدوا المسيح إنسانًا على صورة داود الملك. لكنّ الّذي تكلّم فيهم كان يقصد ابن الله، مسيح الرّبّ، الّذي أتى من صلب داود بشرًا. إذًا، نحن لم نستمدّ حياتنا، ذات مرّةٍ، فقط، في البدء؛ بل نستمدّها في كلّ حين، في كلّ لحظة، من مسيح الرّبّ، الّذي فيه روح الحياة، الّذي فيه يقوم الكلّ. الكلام الكتابيّ يقول عن الكلمة، عن مسيح الرّبّ، إنّ: “فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور النّاس”. إذًا، الرّابط بين نفَس الحياة والنّور رابط صميميّ. الشّمس الّتي تبثّ نورها، تبثّ الحياة، في الحقيقة، في الخليقة كلّها. لذلك، ما يتمثّل لنا حياةً هو نور من عند الله: “أنا نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظّلام، بل يكون له نور الحياة”. مسيح الرّبّ هو الحياة، وهو الّذي يبثّ الحياة. وما دام هو الحياة، فروح الحياة، بصورة تلقائيّة، قائم فيه. لكنّ الله روح. الآب روح، والابن روح، والرّوح القدس روح.
إذا كان الأمر كذلك، فما الّذي يميّز الله – الرّوح من حيث هو الآب – الرّوح، عمّن هو الابن – الرّوح، ومن ثمّ عمّن هو الرّوح القدس – الرّوح؟. ما الّذي يميّز الرّوح القدس عن الآب، وعن الابن؟. ما نعرفه يجعل أنّ كلّ ما للآب هو للابن، وكلّ ما للابن هو للرّوح القدس. الرّبّ يسوع قال بوضوح: “الرّوح القدس يأخذ ممّا لي ويعطيكم”. وقال، أيضًا، عن أبيه السّماويّ: “الكلام الّذي أكلّمكم به لا أكلّمكم به من عندي، بل من عند الآب الّذي أرسلني”. إذًا، في الجوهر، في جوهر الله، اللهُ، آبـًا وابنًا وروحًا قدسًا، هو واحد وهو روح. ولكن، في الله الواحد – الرّوح، شهد الرّبّ يسوع المسيح للرّوح القدس المعزّي، الّذي كان مزمعًا أن يرسله الابن من لدن الآب. إذا كان قد قال إنّه سيرسله من عند الآب، فهذا معناه أنّ الرّبّ يسوع، عندما كان على الأرض، لم يكن الرّوحُ القدس قد أُرسل، بعد، كما ورد في الإنجيل، لم يكن قد كُشف. هذا مع العلم أنّ الرّبّ يسوع، الله – الرّوح، الابن المتجسّد، كان في ما بين التّلاميذ. كان ابن الله قد نزل، وتجسّد من البتول بالرّوح القدس، وحلّ بيننا، وحلّ فينا، في وسطنا. ومع ذلك، قال الرّبّ يسوع إنّه مزمع أن يرسل إلينا المعزّي، الرّوح القدس، من عند الآب السّماويّ الّذي هو مصدر الكلّ. هذا جعل الرّوح القدس مميَّزًا عن الابن، الّذي هو الله – الرّوح – الابن. فإذا كان الأمر كذلك، فهذا معناه أنّه، بالإضافة إلى الجوهر – الرّوح، الّذي هو عينه لله – الآب ولله – الابن، هناك الله – الرّوح القدس الّذي له الجوهر ذاته، ولكنّه مميَّز عن الآب، وعن الابن. هذا ابن الله هو من كشفه لنا. ما كان ممكنًا، على الإطلاق، أن يعرف الإنسان أنّ هناك روحًا قدسًا. فقط بالرّوح، نعرف الرّوح ونتكلّم على الله – الرّوح من حيث هو جوهر الله، ثمّ، بالإضافة إلى ذلك، نتكلّم، بالرّوح عينه، على الله – الرّوح القدس باعتباره أقنومًا، باعتباره شخصًا، إذا جاز التّعبير، كما أنّ الآب هو أقنوم، والابن أقنوم. نحن لا نعرف، أبدًا، للرّوح القدس، غير الأقنوميّة، مزيّة تختلف فيه عمّا للآب والابن. كلّ ما للآب هو للابن، وللرّوح القدس. لكنّ هذه الوحدة أكبر من أن نتمكّن نحن، بما لا يقاس، من استيعابها، في الكشف الإلهيّ. لا يراني أحد ويعيش. لذلك، يأتينا الله – الآب في الابن. الابن يحدّث عن الآب؛ وبعد ذلك، في ملء الزّمن، لمّا اكتمل تدبير الخلاص، أُرسل إلينا الرّوح القدس بالابن، ليكلّمنا على الابن، أو قل ليستمرّ الابنُ مكلِّمنا فيه، ولكن، بالرّوح، بعدما كان قد كلّمنا بالجسد أيضًا!.
إذًا، الرّوح القدس هو الّذي بات معلّمنا، هو بات حياتنا، هو بات نورنا، هو بات نارنا. فيه يعمل الثّالوث القدّوس فينا!. نارنا، بأيّ معنى؟. ميزة النّار أنّها تدفئ. طبعًا، يمكن أن تحرق، أيضًا. ولكن، فقط، من هو غريب عنها. أمّا إلينا، فالنّار دفء. والدّفء، فيما بيننا، يتمثّل، بصورة أخصّ، في دفء القلب. بكلام آخر، يتمثّل في دفء الحبّ، في ملء الحبّ. الّذين يمتلئون من محبّة الله يكونون فيه، في النّار، ولا يحترقون. والنّار، أيضًا، الله عينُه، تكون فيهم ولا تحرقهم. لذلك، في العنصرة، استقرّ الرّوح القدس على التّلاميذ، بشكل ألسن ناريّة. الألسن لتتكلّم. الكلمة، الرّبّ يسوع المسيح، يعطينا نفسه، لنتكلّم فيه. هو الكلمة فينا، هو اللّسان المعطى لنا في الرّوح القدس. وهذا اللّسان من نار؛ لأنّ الكلمة أحبّنا إلى المنتهى، حتّى بذل نفسه عنّا. لذلك، اللّسان النّاريّ، الكلمة – المحبّة، يستقرّ فينا؛ لنصير نحن، بالامتداد، كلمات منه، ألسنةً من نار، ألسنةً تحدّث عن محبّة الله، عن الله المحبّة، الّذي سُرّ أن يستقرّ في البشريّة، مرّة وإلى الأبد.
على هذا، البركة كلّها حلّت علينا في الرّوح القدس؛ البركة الّتي هي روحُ الحقّ، نفَسُ النَّفَس؛ والبركة الّتي هي ماء الماء الدّفّاقة، الحياةُ الجاريةُ فينا، وفي ما بيننا؛ والبرَكة الّتي هي القلب المستحيل نارَ جمْر، من دون أن يحترق، كمثل العلّيقة الّتي اشتعلت، ولم تترمّد، على الرّغم من كونها آتية من رماد؛ والبركة الّتي هي النّور، النّور الّذي هو الله، حياةً أبديّة تُبَثّ في أمخاخنا، في أمخاخ روحنا، وفي أمخاخ عظامنا، حتّى يصير كلّ واحد منّا ممتلئًا من حضور الله، امتدادًا لروح الله، تجسيدًا، بمعنى، للرّوح، أيقونةً تحدّث عن روح الله. نحن شهود وروح الله للبركة الّتي استقرّت فينا وعلينا، بالرّوح القدس، في العنصرة المجيدة. لهذا، لا نكفّ عن الكلام على البركة، في كلّ آن: “مباركة هي مملكة الآب والابن والرّوح القدس…”، “تبارك الله إلهنا، كلّ حين…”، “بارك”، “باركوا”… نحن نستمدّ البركة، دائمًا، دفّاقةً من فوق؛ وفي آن، نقف في حضرة الله، لنردّ البركة إليه، لنعترف أنّها منه وله، وبها نباركه: أنت حياتنا، أنت بركتنا… “الّتي لك ممّا لك نقدّمها لك، على كلّ شيء، ومن جهة كلّ شيء”… لذلك، نحن، كبشر، سُرّ الرّبّ الإله وارتضى أن يُشركنا في بركاته، في حياته الأبديّة اللاّمخلوقة. نحن نقف بإزاء الله، لنردّ إليه البركة، إقرارًا، لنعترف أنّها إيّاه، دستورَ إيمان حيّ، بالرّوح، مذيعين البركة في كلّ آن ومكان. لذلك، نحن يبارك أحدُنا الآخر. نأخذ ممّا أُعطينا، ونمدّه، نمدّ بركة الله على كلّ شيء. نتعاطاها في ما بيننا. نجعلها فيما بيننا، على النّاس، على البهائم، على الطّيور، على الزّحّافات، على الأشجار، على الفراشات، كملوك وكلاء من ملك الملوك… نجعلها على كلّ شيء. الإنسان معطى، على الأرض، أن يكون كاهنًا موزّعًا للبركة، بكَسْرِ جسدِه، مكمِّلاً نقائص شدائد المسيح في جسمه، لأجل جسده الّذي هو الكنيسة (كولوسي 1)، على الخليقة الّتي أبدعها الرّبّ الإله . لذلك، متى باركْنا اللهَ، قلنا إنّه هو البركة إيّاها، وإنّ كلّ ما فينا وما لنا وإيّانا هو منه، من جسده، ومن دمه. ثمّ متى بارك أحدنا الآخر، وباركْنا الخليقة، شهدنا بالصّليب أنّ المسيح معنا وفي ما بيننا، كان، وكائن، ويكون. هذا ليس كائنًا، إلاّ في روح الله؛ لأنّنا قد أُعطينا أن يتروحن فينا مسيح الرّبّ في الرّوح القدس، الّذي نفرح بالتّعييد له، اليوم، من حيث هو ملءُ الكلّ وملءُ المشتهى، حالًّا فينا وفيما بيننا، تمجّد اسمه إلى الأبد، آمين.
الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 26حزيران 2016