معاني الصليب كثيرة ولكني سأحاول ان أستخلص أهم ما فيها مما كتبه الرسول بولس في رسالته الأولى أهل كورنثوس التي قرأنا مقطعا منها اليوم. الرسول وجد نفسه في اليونان أمام حضارة عظيمة، وواجهه النحت والهندسة المعمارية الخلابة في أثينا، كما واجهته مدرسة فلسفية منتشرة هناك، وفي الساحة العامة آريوس باغوس، تحت تلك الهضبة العظيمة القائمة في قلب المدينة. أخذ علماء الكلام والفصاحة يتحدّون الرسول ولم يقبلوه. توجّه إلى كورنثوس، إلى عمّال المرفأ، وهؤلاء الفقراء المهمَلون قبلوا الإيمان عن يده فأدرك بولس أنه لن يؤمن أحد إن كان متمسكا بعقله كل التمسك، وإن كان عقله لا يخضع لإنجيل المسيح.
كذلك طارده اليهود في كل مجامعهم -وكان يرتاد اجتماعاتهم في آسيا الصغرى واليونان- طاردوه لأنهم احتقروا المصلوب. اليهود يطلبون آيات من السماء، معجزات، وقد درّبهم موسى على العجائب وظنّوا ان الله يتظاهر ويتعاظم عن طريق المعجزات الطبيعية. ظن اليهود ان الله جبّار بطّاش، وظن أفلاطون ان الآلهة جميلة. في أورشليم تعلّق بالقوة، وفي أثينا تعلُّق بالعقل والجمال.
يأتي بولس العامل الحائك الذي لم يقرأ كل الفلسفة اليونانية والذي كان ضعيفًا في الجسد يلازمه المرض كما نستخلص من رسالته إلى أهل غلاطية، يأتي أمام المسكونة ويقول: “ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة”، حماقة، جنون. لأن الناس لا يطلبون إلهًا مصلوبًا. بعض منهم يلتمسون إلهًا مسيطرًا، وما كان الله عليهم بمسيطر. والآخرون يطلبون إلهًا ذكيا جميلا، ولكن الله على خشبة الصليب لم يكن جميلا. بعضٌ يطلبون آية وآخرون يطلبون حكمة، فذلكة عقلية ذهنية، واما نحن المخَلَّصين فالمسيح لنا هو قوة الله وحكمة الله. الله يأتي ويُساكن المساكين، يرفض القسوة، يرفضها الى الأبد، يتحدّى الأقوياء، يتحدّاهم دومًا، يتحدّى المعتزّ بجماله وعلمه ومواهبه. المسيح يُلاشي غرورنا ويُميت أمجادنا الباطلة. ونحن قد عشنا في هذا الشرق منذ أربعة عشر قرنا وأمجادنا في دماء الشهداء، في العبادة، في اللاهوت القوي الذي نعبّر به عن الله.
نحن سمّرْنا أنفسنا على الصليب مرة واحدة إلى الأبد لنقول اننا زهّاد بكل ما يعطي هذا العالم، لنقول بأننا فقراء إلى نعمة ربنا ولسنا فقراء إلى أموال هذا العالم. أي ان كل من اتخذ ديانة الصليب فقد اعتنق الموت. نحن أحياء نُرزق ولكننا في مغامرة موت، أي اننا في كل لحظة نميت شهواتنا حتى نحيا بالرب يسوع فوق الشمس حسبما قال بولس: “حاشا لي أن أفتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا صُلبت للعالم” (غلاطية ٦: ١٤).
الصلبان لا تقام في شوارع المدينة مضاءة لنقول اننا في حي وان الآخرين في حي آخر. الصليب لا يفرّق بين الأحياء. الصليب ليس بحدّ ولكنه امتداد. انه قلب الله مفتوحا على العالمين. نحن نغلب، نعم، ولكننا لا نذهب في صليبية من أجل هذه الغلبة. نحن لا نقاتل، لا نذبح أحدا. نحن لا ندافع عن أنفسنا مدافعة شرعية. نحن نغلب. هناك غالب وهناك مغلوب. ولكن الغالب هو المؤمن، والمغلوب هو المؤمن. كيف ذلك؟ المغلوبة هي شهوات المؤمن. أنت وحدك مسرح القتال. مسيحك غالب فيك، وشيطانك فيك مغلوب. نحن طلاب سلام وطلاب فرح وطلاب قيامة، وعبر الصليب نذهب إلى القيامة.
هذه الدنيا زائلة. إن ارتضيتموها كذلك، فأنتم مع المصلوب. ولكن إن أردتم أنفسكم قهّارين للناس، فأنتم مع اليهود لأن إله اليهود قهّار. وإن أردتم أنفسكم حكماء متفذلكين مؤمنين بأذهانكم وترتيباتكم الأرضية، فأنتم مع اليونانيين، مع الأمم الوثنية. ولكن إن رفضتم هذه وتلك، ان كنتم مجانين، إن استطعتم أن تجنّوا، ان تنعموا بنعمة الحماقة السماوية، إن دلّوا بأصابعهم عليكم على أنكم حمقى لا تفهمون شيئا، إن استصغروكم واحتقروكم واستوطوا حيطانكم، عندئذ قد ارتضيتم ان تصبحوا على غرار المعلّم معلّقين على خشبة. ولكن ينبغي ان تفهموا أنكم بهذه الخشبة وحدها وبهذا المصير إلى الموت ظافرون. هذا هو إنجيلكم.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
“رعيّتي”، العدد 37، الأحد 14 أيلول 2014
حماقة الصليب