اليومَ تتفجّرُ كلُّ مواعينِ السّماءِ والأرضِ، إذ تتحقّقُ الكلمةُ المكتوبةُ من بدءِ الأزمنةِ، من قبلِ الدّهورِ… ليأتيَنا محمولاً على جحشٍ ابنِ آتان…
اليومَ يحملُ الله الآبُ ابنَهُ الكلمةَ المكتوبةَ منه في قلبِ كلِّ بشريٍّ في العالمِ، ليُصلَبَ فيدخلَهُ سيّدُهُ إلى مدينةِ مُلْكِهِ أورشليمَ، ليشاهدَ والكونَ الّذي خلقَهُ موتَ مسيحِهِ مضروبًا، مجرَّرًا، ومبصوقًا عليه، ليحييَ بآلامِهِ وحدَهُ كلَّ الّذين سقطوا في كذبةِ الشّيطانِ وادّعائِهِ أنْ: “لا إلهَ”!!.
اليومَ، يصيرُ الفداءُ إلهَ التّائبين، الفارشين أقمصتَهم الّتي لا يملكون إلّاها سجاجيدَ يطأُها كلُّ الّذين مشوا ويمشون دربَ الجلجةِ تابعين الّذي أضاعوه كلَّ حياتِهم، باحثين عن مَلِكٍ مجلَّلٍ بأرديةٍ مذهبّةٍ ومطرّزةٍ.
وصرخَ السّيّدُ: “يا أورشليمُ يا أورشليمُ يا قاتلةَ الأنبياءِ والرّسلِ” (مت ٢٣: ٣٧).
اليومَ الدّخولُ الكليُّ إلى حقيقةِ وجدانِ كلِّ إنسانٍ ورثَ المسيحَ منذ طفوليّتِهِ، من خصبِ أبيه ورَحِمِ أمِّهِ لتُفتحَ له الأبوابُ المغلقةُ الّتي لا يمرُّ فيها إنجيلُ كلمةِ الخلاصِ إلاّ يومَ تنتظرُهُ مدينتُهُ لتقتلَهُ، الّتي لم تستطعْ بشعبِها، بيهودِها أن ترميَهُ من علوِ أسوارِ هيكلِها لتخلصَ من وخزِ الإبرِ الّتي يرميها عمرُها على فراشٍ لا راحةَ عليها وفيها إلاّ بالعقاقيرِ المهدّئةِ… لأنّ ربَّها أوقفَها ديّانةً له، ولم يكذِّبْها، بل صرخَ في وجدانِ قلبِها: “توبوا فقد اقتربَ ملكوتُ الله”.
وصرخَ يهوه ومسيحُهُ: “أنا هو الّذي هو”…
من آمنَ بالمسيحِ المنتظرِ؟!. من سَكَبَ حُبَّهُ خلسةً في ليالي وحدةِ وحشتِهِ شاهقًا الهوانَ والحسدَ والكرهَ والكذبَ طعامًا له، لأنّ الحبَّ الحقيقيَّ استكانَ راجعًا إلى حضنِ مريمَ؟!…
وصارَ مرورُ يسوعَ راكبًا على جحشٍ هو العلامةَ الفارقةَ لكلِّ من يريدُ التّعرّفَ به ليأتيَهُ راكبًا خطاياه لتمحقَها ولو نظرةُ المسيحِ إليه متمتمةً… “لا تخافوا أنا أتيتُ لا لأدينَ، بل لأخلّصَ وجهي الّذي اسودَّ من كذبِ حياتِكم”…
ودخلَ المدينةَ هو والجمعُ… كلُّ من سمعَ أصواتَ التّهليلِ من نوافذِ بيتِهِ خرجَ تاركًا القِدْرَ على النّارِ والأولادَ في المنازلِ وكلَّ الكلِّ، لأنّ الّذي انتظروهُ يمرُّ… والرُّضَّعُ نزلوا عن أثداءِ أمّهاتِهم وحبوا حبوًا، بأصواتٍ لا تحكي: “نحن أيضًا نريدُ أن ندخلَ أورشليمَ مع يسوعِنا”… الكبارُ والصّغارُ وكلُّ الكلِّ مشوا وما زالوا يمشون وأورشليمُ ما زالتْ، إذ يقتربون منها، تبعدُ عنهم خطوةً وخطواتٍ وهم يتبعونَها…
إلى أين يا ربّي نذهبُ؟!. إلى أين تأخذُنا؟!. نحن وُلدْنا من فتحِ فمِكَ: “صيروا شعبي”، ونحن ما زلنا نشاغبُ ونعاكسُ وندّعي أنّنا نحن أوجدناكَ بكذبِ أعيادِنا…
“وكان الجموعُ الّذين يتقدّمونَهُ والّذين يتبعونَهُ يصرخون قائلين: “هوشعنا لابنِ داودَ، مباركٌ الآتي باسمِ الرّبِّ””… ولما دخلَ أورشليمَ ارتجَّتِ المدينةُ كلُّها قائلةً: “من هذا؟!”.
ألم يسمعْ أهلُ مدينةِ الخزيِ الجموعَ… كلُّ الجموعِ تصرخُ: “هوشعنا لابنِ داودَ”… فكيف إذ دخلَ وارتجّتِ المدينةُ صرخوا: “من هذا؟!”…
اليومَ رموا الجنينَ في زاويةِ صندوقِ القمامةِ دون أن يراهُم أيٌّ من العابرين… وإذ سألوا: “من هذا؟”… أجابَ الكونُ كلُّهُ… “مباركٌ الآتي باسمِ الرّبِّ”…
من نطقَ بصوتِ الحقِّ هذا؟!.
أنتم والعالمُ برمّتِهِ، بأطفالِهِ، بشيبِهِ وشبابِهِ، يعرفُ أنّ هذا العابرَ الآتي هو المسيحُ المنتظرُ…
أتنتظرون حياتَكم ولا تعرفون متى تفجّرَتِ الحرقاتُ والغصّاتُ والدّموعُ ولمحةُ التّوبةِ أنّ هذا هو ربُّكم؟!…
أنتم تعرفونَهُ “يا كَذَبَةُ”، لكنّكم جبلتُم الغثَّ بالسّمينِ.. فصارتْ نفوسُكم مشدودةً إلى أرواحٍ نجسةٍ أنتم خلقتموها من نتنِ أمجادِكم الّتي أنتم تريدون أن تبقى مجبولةً بترابِ رحيقِ لعابِكم بعد تمضيةِ ليالي سكرِكُم في منازلِكُم الّتي حوّلتموها إلى أقبيةٍ تفسدون فيها ما خلقَهُ الله من جمالِ روحِهِ ليجعلَكم قطعةً مذهّبةً بالدّموعِ والرّجاءِ والتوبةِ، لا من كذبةِ هذا العالمِ الّذي شوّهتموه إذ صارَ من صنيعِ أيديكم، لا من روحِ الإلهِ…
لكنَّ يسوعَ إذْ يدعونا اليومَ إلى الدّخولِ معهُ إلى مدينتِهِ، إلى أوشليمَ يقولُ لنا: “لا تخافي يا ابنةَ صهيونَ”… الموازينُ، اليومَ، انقلبَتْ رأسًا على عقب…
فالمُلْكُ صارَ لأبناءِ ربِّ الأربابِ وملكِ الملوكِ المعلَّقِ على الصّليبِ!!.
وتصرخُ أصواتُ الرّسلِ والأنبياءِ والقدّيسين، الّذين اختطّوا طريقَ الحياةِ الأبديّةِ قبلنا، أنّ حياتَنا ستكونُ هي الصّليبَ الّذي سيُسمَّرُ عليه يسوعُ. وإذ يسكبُ دمَهُ في كأسِ الحبِّ الّذي يستقي منه الحياةَ كلَّ لحظةٍ حتّى يرويَ عطشَهُ إلينا، يضُمُّنا إلى قلبِهِ لنتعرّفَ عليه وإليه بأجسادِنا، لا بفكرِ قلوبِنا فقط… بجسدِ الموتِ هذا الّذي صرخَ الرّسولُ بولسُ أن يخلّصَهُ الرّبُّ منه، لكن هذا هو جسدُ يسوع… فكيف نخلصُ من جسدِ من أحيانا بحبِّهِ؟!…
اليومَ ندركُ، نحن صغارَ يسوعَ، أنّ حبَّهُ إذ يحيينا يجعلُنا نقطةَ دمٍ في وريدٍ من أوردةِ فؤادِهِ… من لطفِهِ، من بذلِنا روحِنا، قلبِنا، عقلِنا والحشا نقاوةً ليأتيَ وكلُّ من معه ليدخلَ فيتعشّى مع أبيهِ السّماويِّ على مائدةِ قلوبِنا وكياناتِنا.
اليومَ ندركُ أنّ الله الآبَ سكبَ كلَّ كلّيّتِهِ ليحييَ كلَّ عينٍ تحملُ دمعةَ التّوبةِ وتمتمةَ الغفرانِ، إليه…
“أنا لم آتِ لأدينَ بل لأخلّصَ”…
اليومَ يُلقي كلٌّ منّا توقَ الرّأسِ وحنينَهُ لخالقِهِ على كتفِهِ حتّى بصمتِهِ يسمعَ نبضاتِ قلبِهِ يُرجّعُ اسمَهُ الّذي نسيَهُ…
أنتم أحبّائي… أنتم أنا وأنا أنتم الّذين تحيون فيَّ، أنتم حشايَ.
اليومَ يدخلُ يسوعُ والعالمُ الّذي تبعَهُ إلى بيتِ عنيا ليقيمَ صديقَهُ، حبيبَهُ لعازرَ من قبرِهِ، لنصدِّقَ نحن الّذين نشكُّ به وباقتدارِهِ أنّ الكونَ لم يعدْ فيهِ أيُّ موتٍ…
صدّقوني… ولا تخافوا لأنّي أنا غلبْتُ العالمَ.
اليومَ بدءُ النّهاياتِ الّتي يحيا كلُّ إنسانٍ مؤمنٍ لأجلِها… ليذوقَ الحقيقةَ الّتي لم يصدِّقْها بكيانِهِ، أن لا موتَ والإلهُ الرّبُّ يسوعُ حيٌّ فينا.
اليومَ هو يومُ الصّمتِ والانتظارِ اللّهفِ. إنّ حياتَنا تستعيدُ حقيقةَ وجودِها اليومَ… إذ نطفرُ كالأيائلِ لنشهدَ لإقامةِ لعازرَ صديقِ وحبيبِ يسوعَ لكي، نحن أيضًا، نُختطفَ من هذا العمرِ لا بخوفٍ، بل بانتظارِ نورانيّةِ الحبِّ الإلهيِّ تمتلكُنا لنحيا، لا بإنسانِنا العتيقِ، بل بطفولةِ الّذين رموا بأرديتِهم حتّى يمشيَ عليها “أتانُ” يسوعَ فنُشفى إذ نسمعُ صوتَ الإلهِ قائلاً:
يا لعازرَ قُمْ!!.
اليوم تتفكَّكُ رُبُطُ الموتِ، وأقمطةُ البلى تلفُّ كذبةَ الحسد ليقومَ لعازرُ وكلُّ ميتٍ إلى قيامةِ السّيّدِ إلى الأبد.
الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان
5نيسان 2015