...

مرقس الإنجيليّ الأوّل

مرقس الإنجيليّ، هو على الأغلب يوحنّا مرقس، الذي يرد ذكره في كتاب أعمال الرسل (١٢: ١٢)، حيث كانت الكنيسة تجتمع في منزله. وبناءً على هذه الآية يفترض البعض أنّ هذا المنزل (العلّيّة) هو المنزل ذاته الذي اجتمع فيه الرسل بعد صعود الربّ (أعمال ١: ١٣). البعض الآخر يضيف أنّها العلّيّة التي أقام فيها الربّ عشاءه الأخير مع تلاميذه (مرقس ١٤: ١٥). بعد ذلك رافق مرقس كلًّا من بولس وبرنابا الرسوليّن في عملهما التبشيريّ (أعمال ١٢: ٢٥)، ثمّ رافق برنابا فقط (أعمال ١٥: ٣٦-٤٠). وذلك بشهادة المؤرخّ الكنسيّ الأوّل أوسابيوس القيصريّ († ٣٣٩). ويضيف أوسابيوس أنّ الإنجيليّ دوّن بشارة الرسول بطرس. وهذه العلاقة مع هامة الرسل، نجدها واضحة في رسالة بطرس الأولى، إذ يسمّيه فيها «ابني» (١بطرس ٥: ١٣).

يؤكّد علماء الكتاب المقدّس الحديثون أنّ مرقس هو من اخترع الفنّ الأدبيّ الذي ندعوه «إنجيل». فهو أوّل من كتب هذا النوع من الكتب. وذلك خلافًا للمعتقد، السائد قديمًا، بأنّ متّى هو أوّل من كتبه. وتأكيدهم هذا مبنيّ على أدلّة من داخل نصّ الإنجيل ومن خارجه، لا يسعنا هنا استعراضها. لكن ما يهمّنا هو أنّ هذه الأدلّة مجتمعة تشير إلى أنّ كتابة النصّ تمّت نحو السنة سبعين للمسيح (٦٥-٧٥). أمّا المكان الذي كتب فيه مرقس إنجيله فالتقليد القديم والعلم الحديث يتّفقان على أنّه روما، عاصمة العالم القديم.

يتكوّن نصّ الإنجيل من مقدّمة (١: ١-١٤) وقسمين كبيرين، حيث يشكّل اعتراف بطرس الإيمانيّ (٨: ٢٧-٣٠) حجر الزاوية الذي يربط بين القسمين. القسم الأوّل (١: ١٤-٨: ٢٦) ينشغل بالسؤال عن هويّة هذا المعلّم الجليليّ. فمنذ أوّل ظهور علنيّ ليسوع كمعلّم يواجه بالدهشة والتساؤل: من هو هذا؟ «ليس مثل الكتبة» (١: ٢٢). سيسأل الناس والسلطات عنه وعن تعليمه وعن سلطانه، وحدها الشياطين تبدو أنّها تعرف، لكنّها تجابه بأمر من يسوع نفسه، بأمر لا تستطيع إلّا أن تطيعه، بأن تسكت (١: ٢٤-٢٥؛ ١: ٣٤؛ ٣: ١٢).

ويسوع الناصريّ يتصرّف بسلطان وقدرة تدهش وتشكّك، قدرة تصنع المعجزات، حيث يورد الإنجيليّ مرقس ١٨ معجزة ليسوع في هذا القسم الأوّل. وغالبًا ما يرفض أن يتمّ الإعلان عمّا يجريه من معجزات، فيفرض الصمت على المستفيدين من معجزاته. فهو يريد العمل بصمت ولا يرغب في أن يبدأ الناس في التكهّن عن هويّته أو رسالته. هو لا يريد أن يعلن هويّته الحقيقيّة، إلّا بعد أن يبيّن المعنى الحقيقيّ لهويّته ورسالته. لذلك سيأتي اعتراف بطرس مصحوبًا بنبوءة يسوع الأولى حول آلامه (٨: ٣١). فيسوع الناصريّ هو المسيح ابن الله، الذي تنبّأت به الكتب المقدّسة بأنّه سيصلب ثمّ يقوم. فالآلام والصليب جزء من هويّة المسيح ابن الله الحيّ ورسالته.

وهكذا يجيب اعتراف الرسل، بلسان بطرس، عن السؤال الذي يطرحه القسم الأوّل من الإنجيل. ويشكّل بذلك خاتمة لهذا القسم، وفي الوقت عينه بداءة للقسم الثاني، الذي يحيطه سؤال آخر: هل فهمنا معنى هذا الاعتراف الإيمانيّ؟ وبما أنّ خبر الآلام والقيامة يشكّل خمس نصّ إنجيل مرقس، لذلك نفهم أنّه لمّا قال البعض إنّ الخبر الأساس للإنجيل هو الآلام والقيامة، وكلّ ما سبقه ما هو إلّا مقدمة طويلة لهذا الخبر.

القسم الثاني ترد فيه ثلاث معجزات يقوم بها يسوع وهي: شفاء غلام به روح نجس (٩: ١٤-٢٩)؛ أعمى أريحا ١٠: ٤٦-٥٢ ولعن التينة ١١: ١١-٢٦). وهذه المعجزات تبدو موجّهة إلى التلاميذ وحدهم. إذ لا نقرأ عن ردّ فعل الجموع، التي كانت موجودة على الأقلّ في المعجزتين الاولى والثانية.

يعزّز فهمنا لهذه المعجزات الثلاث، واختلافها عن معجزات الجزء الأوّل، ما سأله التلاميذ في نهاية شفاء الغلام: «لماذا لم نقدر نحن على أن نشفيه؟» (٩: ٢٨). فمن الواضح أنّ التعليم هنا موجّه إلى من يتبعون يسوع فقط، أي التلاميذ أو من أراد أن يصبح تلميذًا. وكذلك في نهاية المعجزة الثانية نقرأ أنّ الأعمى بعد أن أبصر «تبع يسوع في الطريق» (١٠: ٥٢). وبما أنّ دخول أورشليم يأتي مباشرة بعد هذه المعجزة، فمن الواضح أنّ تلميذ يسوع هو من يتبع يسوع في طريقه نحو الصليب. كما يرشدنا في طريقنا هذا، ما نبّهنا إليه مرقس الإنجيليّ بأن نتذكّر كلّ ما قاله يسوع وكلّ ما عمله، كما فعل بطرس حينما رأى التينة قد يبست (١١: ٢١).

ينتهي القسم الثاني باعتراف إيمانيّ آخر، هذه المرّة على لسان قائد المئة (١٥: ٣٩)، ويعيدنا هذا الاعتراف الصادر عن شخص وثنيّ، إلى اعتراف بطرس وكذلك إلى فاتحة الإنجيل «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله» (١: ١). فلا يتحدّث مرقس في إنجيله عن ظهورات المسيح القائم من بين الأموات، كما في باقي الأناجيل. فالمقطع الأخير (١٩: ٩-٢٠) يقدّم أخبارًا بدون تفاصيل. وكأنّ الإنجيليّ يريدنا أن نؤمن بهذه القيامة كما آمن بطرس وقائد المئة عبر علاقة شخصيّة بيسوع المسيح ابن الله. لذلك تبدو دعوة الملاك، الموجود في القبر الفارغ، إلى النسوة والتلاميذ وإلينا لملاقة المسيح في الجليل، حيث بدأ تعليمه.

فمن يسمع تعليم المسيح، ومن يتبعه في طريق آلامه وقيامته، ومن يتذكّر كلّ ما قاله وعمله، يستطيع أن يرى المسيح قائمًا من بين الأموات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مرقس الإنجيليّ الأوّل