انتبه للحسد، فما من شهوة أشدّ سوءًا وضررًا من الحسد. فهو لا يؤذي القريب بقدر ما يؤذي الإنسان الحسود نفسه. فالحسد سوسة تنخر قلب الإنسان في الأعماق، وتعمل فيه كما يعمل الصدأ بالحديد. هو كآبة نفسٍ وحزن يصيب الإنسان لدى مشاهدة السعادة التي يتمتّع بها الغير. وكم في الحياة من أسباب ودواعٍ يتعرّض لها الحسود فتثير حفيظته. فإن أخصبت أرض قريبه أو ارتفع له بيت وتزيّن، إذا كان سعيدًا في عمله ومع عائلته، كلّ هذه أمور توغر قلب الحسود وتزيد عذابه. الحسود يشبه رجلاً عاريًا يتعرّض جسده كلّ ساعةٍ للسهام. فإذا رأى شخصًا قويًّا معافى اغتمّ، وإذا قابل إنسانًا جميلاً، أو آخر ذكي الفؤاد، جُرح في الأعماق، وإذا علم أنّ إنسانًا نجح في الحياة نجاحًا باهرًا أحسّ بألم يدمي فؤاده.
وأشدّ ما في الحسد أنّه داء يُطوى في الكتمان. ترى الحسود خافض البصر، كالح الوجه، يتشكّى باستمرار من عذابٍ داخليّ ما يذبل وجهه ويضني جسده فيهزل ويضعف. فهو يستحي أن يقول «إنّي حسود»، أشعر بالمرارة والحزن للخير الذي حصل عليه إنسان غيري، وإنّي أتعذّب لسعادة أصدقائي، ولا أطيق نجاح أترابي، إنّي أرى أنّ سعادة الآخرين هي سيف يمزّق أحشائي ويطعنني في الصميم. هذا ما كان يجب أن يبوح به الحسود. لكنّه يفضّل أن يحفظه في قلبه ويصمت، وهكذا يبقى الداء في ذاته فيضنيه العذاب ويفني جسمه قليلاً فقليلاً.
لا أجد طبًّا لمعالجة الحسود، ولا دواء لشفاء هذا المرض الخبيث، فالعزاء الذي يرطّب قلبه، لا يحصل عليه إلاّ عندما يرى الذين يحسدهم قد حرموا من السعادة. كما أنّ بغضه لا يحدّه ولا يوقفه شيء إلاّ زوال نعمة قريبه وانهيار نجاحه.
وعندئذ فقط يُظهر المودّة للغير إذ يراه حزينًا باكيًا، رغم أنّه لا يعرف الفرح مع الفرحين، إنّما يعرف فقط البكاء مع الباكين. فهو يتأسّف لوقوع النكبة، لا عطفًا على المنكوب، بل لكي يزيد ألمه بذكر ما فقد أمامه.
الحسود، يفقد الإحساس والشعور الصحيح بالقيم. فلا تتكلّم أمامه على فضيلة، أو على جمال أو على قوّة أو على روعة وفتنة منظر ما. فلا شيء من كلّ هذه يعجبه. وبذلك هو يشبه بعض الطيور التي ترى المراعي الخصبة، والأشجار الجميلة الباسقة، ومناظر الطبيعة المدهشة، لكنّها لا تتوقّف ولا تحطّ بقوائمها إلاّ في المستنقعات والمزابل. وعلاوة على كلّ ذلك، عند الحسود تصبح الفضيلة رذيلة، والخير شرًّا. وهكذا الرجل الشجاع يعتبره الحسود متهوّرًا، والعاقل بليدًا، والبارّ مجرمًا، والحكيم مرائيًا والكريم مسرفًا ومبذّرًا، والحريص بخيلاً. إنّ كلّ الفضائل تصبح عند الحسود رذائل.