)تعريب عن السنكسار اليوناني(
دعي القديسان الشهيدان الشقيقان كوزما ودميان بماقتَي الفضّة لأنهما كانا يعالجان ويشفيان المرضى “مجاناً” أي لم يهتموا بمال وفضة. كانا من مناطق آسيا، وهما ولدان لامرأة تقية تدعى ثيوذوتي. يشكّل هذان القديسان الزوج الأول الذي يحمل اسم قزما ودميان. إذ أن هناك ثلاثة أزواج من القديسين الماقتي الفضة يحملون الاسم نفسه. لذلك ولئلا تختلط الأمور علينا عندما نسمع بهذَين الاسمَين، سنتحدث في البداية عن الزوجين الآخرين وبعدها سندخل في موضوعنا لهذا اليوم الذي نعيد فيه للقديسين.
1- ما عدا هذين القديسين الذين نعيد لهما اليوم لدينا قديسان آخران ماقتان للفضة يُدعيان أيضاً كوزما ودميان. كان هذان من روما وجاهدا على عهد الملك كارينوس (284 م.). كانا يشفيان الناس والحيوانات مجاناً بلا أجر، إضافة إلى أنهما كانا يبشران بالمسيح كإله حقيقي. وإذ وصلت أخبارهما إلى مسامع الملك كارينوس دعاهما للمثول أمامه. فحضرا أمامه بشجاعة وبشّراه بالمسيح كإله حقيقي فتحوّل عن وثنيّته وصار مسيحياً غيوراً. أما إيمان الملك بالمسيح فأتى على الأرجح نتيجة أعجوبة أجراها هذان القديسان: فقد هددهما الملك بأنه سيهلكهما إن لم يعتنقا الوثنية، لكن رقبته التَوَتْ للحال إلى الخلف، فأعادها القديسان بقوة الله إلى وضعها الطبيعي. وهكذا بفضل هذه الأعجوبة وبفضل تعليمهما القوي آمن الملكُ كارينوس بالمسيح وكل الحاضرين وجموع الشعب. بعد هذا حقد عليهما معلمُهما في مهنة الطب بسبب مقدرتهما الطبية، والتي لم يكن هو قادراً على مضاهاتهما بها، فرغب بإهلاكهما بالاتفاق مع تلاميذ له آخرين شاركوه رغبته هذه. هكذا أصعدوا القديسَين إلى جبل عالٍ بحجّة جمع بعض الأعشاب العلاجية وهناك قضوا عليهما رجماً. نعيّد لذكراهما في الأول من شهر تموز.
2- هناك قديسان آخران عادما الفضة، كوزما ودميان، أصلهما من البلاد العربية، كانا بارعين في مهنة الطب. طافا البلاد والمدن يشافيان المرضى وفي ذات الوقت يبشّران باسم المسيح. وصلا على عهد الملك ديوكليتيانوس ومكسيميانوس برفقة ثلاثة أخوة إلى إحدى مدن منطقة ليكيا المدعوة إيغاس فقُبض عليهما من قبل رئيس المنطقة المدعو ليسيوس وجُلدا بشراسة. ولأنهما استمرّا بالكرازة بالمسيح بجرأة، طُرحا في البحر بعد أن رُبط عنقَهما بواسطة حبال بصخرتين ضخمتين، إلا أن ملاك الرب أخرجهما من البحر أحياءً. فعاد ليسياس وأمسكهما وألقاهما في أتون مشتعل، لكن النعمة الإلهية حفظتهما معافين. في النهاية سُمّرا على الصليب وقُطعت هامتَهما بأمر من ليسياس. نعيد لهما في 17 تشرين الثاني.
3- أما بالنسبة إلى القديسين الذين نعيد لهما اليوم (1 تشرين الأول) فلنستعد يا أخوة لكي نبتهج بالرواية المفصلة، مكرمين ذكراهم بالإطلاع على كمال محبتهما وعملهما الإنساني الصالح، علّنا نكون مستحقين للإقتداء بهما.
من واجبنا دوماً أن نطّلع على الصالحات لكي لا يجد ذهننا مناسبة لينشغل بالسيئات، عالمين أن ذهن الإنسان لا يمكنه أن يبقى هادئاً إن لم يبقَ دائم الهذيذ بالله. وبما أنه على ذهننا أن يتأمل دوماً بالصالحات فيتوجب علينا بالتالي أن نوجهه لدراسة الكلام الإلهي وسماعه، لتسبيح الله وتمجيده، للتضرعات والصلوات، لاختيار الصلاح وكيفية تتميم الخير بحسب ما يوافق الله. ولما كانت القراءة الباطلة تنبت أعمالاً باطلة، وتؤدي إلى هلاك النفس، كذلك القراءة الصالحة تعطي ثماراً صالحة وتكون مدعاة للحياة والخلاص، كما يقول داوود في المزمور: “لو لم تكن شريعتك هي تأملي لكنت هلكت في مذلّتي” (مز 92). لذلك من المفيد دائماً أن نلهج بالصالحات وأن نتعرّف على الكتب وسير القديسين، إذ كما قال المسيح حسب الإنجيلي يوحنا: “فتشوا الكتب لأنكم تظنّون أن لكم فيها حياة أبدية” (يو 5، 39). فأيّ جواب نقدمه لله عندما، لأجل معيشتنا الجسدية، نعبر البحر مستخفين بالمخاطر، غير هيّابين من اللصوص، لا مبالين بالبرد أو بالمطر، صابرين على كل التجارب، وذلك لنوال الخيرات المادية؛ بينما، لمنفعة نفوسنا، لا نريد حتى أن نذهب إلى الكنيسة لنسمع من الآخرين كلام الله؟
فبينما يتعب الكثيرون بحفر أعماق الأرض ليستخرجوا الفضة والذهب، هكذا يجب علينا ليلاً نهاراً أن نهتم كيف نحقق فائدة لنفوسنا. ومتى نجد الفائدة لنفوسنا؟ عندما نعيّد لأحد القديسين علينا أن نسرع إلى الكنيسة لنسمع كلام الله ونتعظ. ولهذا فقد نظّم لنا آباءُ كنيستنا أعيادَ القديسين، وذلك لكي نسرع إلى الكنيسة لنسمع الوعظ، لنسأل بعضنا بعضاً: “من هو القديس الذي نعيد له اليوم؟ كيف جاهد؟ كيف قضى؟ كيف مُجِّد من الله ومن البشر؟”. وبواسطة الأسئلة والتعليم نقتدي حسب قدرتنا بأعمال ذلك القديس. لا يجدر بنا يا إخوة أن نخجل من أن نسأل أولئك الذين يعرفون، لكي نتعرف تماماً على الأمور التي لم يسبق لنا معرفتها، كما يقول موسى في تثنية الاشتراع.
إننا نجهل الكثير عن قديسي كنيستنا، أسماءهم وأعمالهم، لماذا؟ لأننا لا نهتم كفاية لتعلّم هذه الأمور، والتي من شأنها أن تحقق الفائدة لنفوسنا، بينما ذهننا مشغول فقط بالاهتمامات الدنيوية. أحياناً، إذا ما سمعنا قصة خرافية نتّعظ حالاً ونتذكرها دائماً، أما إذا سمعنا قصةً للقديس الفلاني فللحال ننساها. أما البعض فيقول: ما الفائدة التي سأجنيها لنفسي إذا كنتُ أسمع العظة وبعدها لا أفعل حسب ما أسمع؟ أنصتْ إلـيّ، قلْ لي: إذا كان لدينا وعاءان قديمان ووُضع في الأول قليل من الماء لغسله ثم طرحنا منه هذا الماء، أما في الوعاء الآخر فلم نضع ماءاً بالكليّة، فأي الوعاءين سيكون الأنظف؟ أهو الوعاء الذي وضع فيه الماء ثم طرحنا منه لاحقاً، أم الوعاء الذي لم يوضع فيه ماء أبداً؟ من الواضح أن الوعاء الأول هو الأنظف. هكذا هو الإنسان أيضاً، فإذا سمع الوعظ ولم يعمل به فهو طبعاً لم يفعل حسناً، لكنه يبقى أفضل حالاً من ذلك الذي لا يريد أن يسمع على الإطلاق، لأن ذاك الذي لا يسمع الوعظ لا يعرف ما هي إرادة الله، ولا يعرف ما هي الفضيلة أو ما هي الرذيلة، إذ لا يفهم ما هو العمل الذي يرضي الله ليصنعه وما هو الشرّ ليتجنّبه، لذلك يذهب إلى الجحيم. أما من يسمع كلام الله دوما” ويتوجّع على خطاياه ويفحص ضميره يكون لديه أمل بالخلاص إذا تاب.
لذلك سنروي لكم أيها المسيحيون المباركون أعمال ومآثر القديسين ماقتي الفضة كوزما ودميان، إذ نعيد اليوم لذكراهما، علّنا نقتدي بأعمالهما فنظهر نحن أيضاً أولاداً مستحقين لأبينا السماوي وإلهنا. فلنفتحْ إذن أعين أذهاننا لقصة القديسين عادمي الفضة ولنرَ أية أعمال قاما بها، كيف عاشا وكيف كرمهما في النهاية الله والبشر.
سُمّي هذان القديسان بماقتي الفضة، كما سبق وقلنا، لأنهما كانا يشفيان المرضى دون أن ينالا منهم أية مكافأة ولا فضة ولا هدايا لقاء أعمالهما. ونعيد لهما في 1 تشرين الثاني. كانت عائلتهما ميسورة، وكان والدهما في البداية إغريقي الديانة إلا أنه بعد أن أنجب ولديه القديسين رفض الوثنية المقيتة واعتنق المسيحية، وتوفي بعد ذلك بزمن قصير قضاه بالفضيلة والعفة، مسلّماً روحه للخالق، وتاركاً ولديه للعناية الإلهية ولرعاية والدتهما. أما والدتهما ثيوذوتي فكانت مسيحية منذ حداثتها، وبعد أن ترملت اهتمت بتنشئة طفليها بورع أكبر، إذ كانت هي أيضاً امرأة فاضلة، ولكثرة مناقبها أصبحت مثالاً لكل النساء من أقاربها.
درس ولداها مهنة الطب، وبدءا عملهما الإنساني مباشرة. لم يكن مبتغاهم شفاء الأجساد بمقدار ما كانت رغبتهما شفاء الأرواح، مبشّرَين باسم المسيح في كل مكان وزمان.
استحقا بسلوكهما أن ينالا الموهبة، لأن الموهبة التي منحها المسيح لتلاميذه القديسين أن يشفوا كل نوع من أنواع الأمراض قد نالها هذان القديسان. ولذلك كانا يشفيان المتألمين بدون الحاجة إلى استخدام أعشاب أو أية وسائل علاجية أخرى، إنما فقط بنعمة الروح القدس. ماذا سنروي إذن عن التواضع، عدم القنية، الإنسانية، وغيرها من الفضائل التي كان يملكها رسولا المسيح هذان؟ فقد كانا متواضعين لدرجة أنهما كانا يخدمان جراح المرضى بأنفسهما، وكان لديهما عدم قنية وعفة عن المال لدرجة أنهما لم يقبلا أخذ فضة على الإطلاق، حتى أنهما لم يرتديا رداءً آخر في حياتهما، ولم يحملا ولا حقيبة ثانية في طريقهما، لهذا لم يعتد الناس على مناداتهما باسميهما كوزما ودميان، إنما بماقتَي الفضة. فقد كان هذا اللقب معروفاً في ذلك الزمن. ولشدة رحمتهما وإنسانيتهما فإن أشفيتهما لم تقتصر على المرضى من البشر، إنما تعدت ذلك لتشمل الحيوانات التي كانا يعالجانها كلما وجدوها مريضة.
كان يقدمان الشفاء للجميع على حد سواء، للأغنياء كما للفقراء، للغرباء كما للأقرباء. أما مسكنهما فكان مثل بركة سلوام وربما فاق عليها، فبينما كانت تلك تشفي مريضاً واحداً بالسنة، كان مسكنهما يمتلئ بالمرضى المشفيين كل يوم.
وإن كان للقديسَين قدرة شفاء كل أنواع الأمراض، إلا أنه لم يكن لديهما أيّ اعتقاد بأن هذه الأشفية كانت تتم بفضل مهارتهما الطبية إنما بنعمة الله، وإن كانا على إطلاع ومعرفة بكتب الطب القديم لابيقراط وغالينوس وغيرهم، إلا أن الأمر لم يكن يجدي بمقدار فاعلية قوة اسم المسيح، الاسم الذي كان وحده مرشدهما ومساعدهما. وبينما كانت مهنة الطب عاجزة عن منح النور للأعمى والمشي للأعرج والحياة للميت، كان هذان القديسان قادرين على صنع كل هذه الأمور بقوة المسيح. لذلك كان يقصدهما الجميع من كل صوب إذ سمعوا من بعيد عن قوتهما العجائبية الكبيرة فكانوا يهرعون إليهما حاملين المرضى والعمي والعرج والممسوسين والمطروحين في الأمراض، فلم يكن يغادر أحد منهم دون أن ينتفع، إنما كانوا يغادرون فرحين وحائزين على نعمة الشفاء مضاعفةً، أي شفاء الجسد والنفس معاً.
* * *
أما رواية كل عجائبهما فيتطلب جهداً كبيراً، لكن، على سبيل المثال، سأروي لكم أعجوبتين فقط، أما الباقية وهي لا تُحصى، فسأتجاوزها الآن لئلا يصبح كلامي متعباً.
في ذلك الزمان كان هناك امرأة تدعى بلاديا، كانت كغيرها من المرضى والمطروحين في الفراش، غير قادرة منذ سنوات عديدة على الحراك من مكانها، لكن حالما حضر القديسان إلى دارها شفياها على الفور حتى بدت كما لو إنها لم تكن مريضة على الإطلاق. أما هذه، فلشدة دهشتها وفرحها بقوة القديسين العجائبية الغريبة والعظيمة، فقد أرادت أن تكافئهما مقدمة لهما هدية صغيرة، فأخذت ثلاث بيضات وقدمتها كهدية متواضعة للقديسين، لكن القديسان لم يقبلا الهدية ليس لفقرها إنما لعدم رغبتهما في قبول أجر لقاء علاجهما. لكن المرأة عندما رأت أنهما لم يقبلا الهدية حزنت جداً، فانتظرت حتى انفردت مرة بالقديس دميان الأخ الأصغر، فتقدمت إليه ووقفت قبالته وقالت له باكية: “لماذا اعتبرتموني أنا الشقية كما لو كنت مزعجة؟ لماذا أبعدتموني كنجسة؟ لماذا تجاهلتموني أنا الشقية ولم تقبلوا هديتي الفقيرة؟ أستحلفك باسم المسيح الإله الحقيقي الذي أومن به ألا تجرحني، لكن اقبل مني هذه الهبة الصغيرة كما لو أنها عظيمة. لدى سماع القديس هذا الكلام تألم لأجلها وقبل أن يأخذ الهدية منها. وبعد مرور عدة أيام أخبر القديس أخاه كوزما بالأمر، وكيف أنه قابل تلك المرأة وأنها ترجّته واستحلفته، وكيف أنه تألم لأجلها وقبل الهدية منها في نهاية الأمر. حالما سمع القديس كوزما هذه الرواية تذمّر متنهداً وبكى أخاه كما لو أنه سقط في خطيئة عظيمة أي هوى حبّ المال، والأكثر من ذلك أنه أخلّ بالوعد المتفَق عليه بينهما بألاّ يتقاضيا هدايا لقاء أشفيتهم، وليس هذا فقط بل قال أنه بعد موته لا يريد أن يُدفن جسده بالقرب من جسد أخيه دميان.
بدا هذا الأمر للقديس عظيماً إلى هذه الدرجة، وتألم كثيراً غير عالم في الحقيقة قصد القديس دميان، أنه قبل الهدية بسبب قسم المرأة، بل ظاناً أنه قبلها لقاء الشفاء. لكن الله العارف خفايا القلوب فهم بوضوح هدف القديس دميان، فلم يترك القديس كوزما منكسر القلب هكذا من شدة الحزن من أخيه، فظهر له في رؤية وهدّأ قلبَه موضحاً له بالحلم ما كان قصد أخيه من قبول الهدية، وإذ عاين القديس كوزما هذه الرؤية تصالح مع أخيه، لكنه لم يخبر الناس بالرؤية التي رآها. لذلك عندما رقد القديس كوزما لم يشأ الناس أن يدفنوا جسده الكريم حيث كان جثمان أخيه احتراماً لوصيته. لكن اسمعوا ما هي العجيبة الغريبة التي رتبها الله حول هذا الأمر. لهذا، اصبروا قليلاً لتعلموا أولاً كيف رقد القديسان وبعدها اسمعوا تلك العجيبة.
كما سبق وقلنا فإن مسيرة القديسين قادتهما إلى إحدى مناطق آسيا المدعوة “فرمان”، هناك مرض القديس دميان، الأخ الأصغر، إذ كانت مشيئة الله أن يرتاح من الفساد وينتقل إلى بهاء الفردوس الأزلي، فرقد بالرب وحملت روحَه ملائكةُ نور، أما جثمانه المقدس فقد وُضع من قبل أخيه كوزما وغيره من المسيحيين في تلك المنطقة المذكورة. وبعد عدة أيام رقد القديس كوزما. عندها وكما قلنا فإن المسيحيين، وبسبب وصية القديس كوزما ألاّ يدفنوه في نفس المكان مع أخيه دميان، لم يشاءوا أن يدفنوه بجانب أخيه. لكن ماذا رتب الله العجيب هنا؟ فيما كان المسيحيون يتناقشون لساعاتٍ طويلة حول هذا الموضوع، أي إذا كان عليهم ألاّ يدفنوه قرب أخيه عملاً بوصيته، أو إذا كان عليهم أن يدفناهما الواحد قرب الآخر لأنهما كانا أخوَين بالجسد، وإذ باللهُ يظهر للناس إرادته بواسطة جمل، كان القديس كوزما قد شفى رجليه المعلولتين، فصرخ هذا الجمل بصوت بشري قائلاً: إن رغبة الله أن يُدفن الأخوان معاً. عندها ذهب المسيحيون الذين استمعوا إلى الرؤية العجيبة وصعدوا إلى الجبل وصنعوا كما قال لهم الجمل.
هكذا أيها المسيحيون المباركون، لا يكن أحد منا غير مؤمن بهذه العجيبة لأن غير المستطاع عند البشر مستطاع عند الله، وعندما يشاء الله فإنه يغلب نظام الطبيعة. وإلاّ ماذا يرد في العهد القديم في سفر العدد كيف تكلم حمار العرّاف بلعام، مما يؤكد أن أمراً كهذا ليس غريباً إذا ما شاء الله أن يتكلم الجمل. هذا يكفي فيما يتعلق بهذه العجيبة.
* * *
اسمعوا الآن عجيبة أخرى حدثت عند وضع جثمان القديس كوزما: كان أحد المسيحيين الطاعنين في السن مريضاً بمرض الاستسقاء، وكان ينتظر ساعة موته. لكن سمع بعجائب القديسين التي تجري في كنيسة القديسين، فترجّى أقاربه أن يحملوه على فراش ويضعوه أمام أيقونة القديسين. بالفعل بقي هناك لأيام عديدة دون أن يرى أية نتيجة، فقد كان القديسان يمتحنان إيمانه فلم يشفياه، أما هو فكان يرى كيف يُشفى مرضى آخرون، بينما هو أمضى عدة أيام دون أن يشفى. بدلاً من أن يصبر ويتضرع أكثر للقديسين جدّف عليهما لأنهما تجاهلانه ولم يشفياه للحال. ولقلة إيمانه طلب من أقاربه في أحد الأيام أن يعودوا به لكي يموت على الأقل في منزله. فحملوه مجدداً على الفراش وساروا به. ولما كانت منطقتهم بعيدة، وضعوه في مكان فيه شجر وماء ليرتاحوا قليلاً من سفرهم. وبينما هم جالسون غفوا بسبب تعبهم من الطريق، لكن المريض بقي مستيقظاً لأنه لم يكن قادراً على النوم بسبب شدة آلامه. عندها ظهر له القديسان كوزما ودميان بهيئة عابرين وقالوا له: “ماذا دهاك يا إنسان وأنت مريض على هذه الحال؟ وإلى أين تذهب”؟ فأجابهما: “أما مرضي فهو واضح أمامكم، وأنا ذاهب إلى منزلي لكي أموت قرب أولادي”. فقال له القديسان: “لماذا لا تذهب إلى كنيسة القديسين ماقتي الفضة فهي قريبة من هنا علّك تُشفى. ألا تسمع كيف يأتي المرضى من سفر خمسة أو عشرة أيام ويشفون”. فأجابهم: “أنا أيضاً قد ذهبت وها إني قادم لتوّي من هناك لكني لم أحظَ بأية معونة، لهذا تأكدت أن الناس يقولون أكاذيباً بأن القديسين يصنعان العجائب لكن حسب ما ظهر لي فهما غير قادرين على شفائي”. فقال له القديسان: “لا تجدف يا إنسان على قوة المسيح ونعمة القديسين عادمي الفضة، أصغِ لنا، وعُدْ مرة أخرى وسترى قوة المسيح”. فأجاب المريض: “وما الذي سيعيدني هناك ثانية، وقد تعب هؤلاء الناس حتى أحضروني إلى هنا”. فقالوا له: “دَعْ هؤلاء الناس يرتاحون أما نحن فلأجل محبة المسيح سنحملك ونأخذك إلى هناك”. وهكذا حمل القديسان المريض مع سريره الخشبي وأخذاه إلى كنيستهما ووضعاه أمام أيقونتهما ثم اختفيا. بعد مضي ساعة من الزمن استيقظ أقاربه فلم يجدوه في الموضع حيث تركوه هناك فعادوا إلى كنيسة القديسين وإذ بهم يجدونه هناك. في تلك الليلة ظهر له القديسان حاملين سيفاً بيدهما، فقال كوزما لأخيه: “شق بطن الشيخ فإنه عجوز ومجدّف”. فتهيئ له أنه شقّه من أحشائه. عندها استيقظ المريض من شدة خوفه وبدا له بطنه كما لو كان مشقوقاً فعلاً بمشرط. وللحال نزف مادة غريبة وعفونة حتى نحل جسمه وعاد إلى حالته الطبيعية، وشفي الجرح أيضاً الذي سببه السيف، وظهرا له في الليلة الثانية وكان معافى. وهكذا عاد إلى منزله صحيحاً ماشياً وممجداً الله.
* * *
اسمعوا عجيبة أخرى للقديسين. كان أحد أسياد ممالك المسيحيين مريضاً بمرض عضال وهو مرض حبس البول، وكان قد صرف كل ممتلكاته أملاً بالعلاج لكن دون جدوى، وإذ فقد الأمل من كل الأطباء تذكَّر القديسين عادمي الفضة وطلبَ من أقاربه وأصدقائه أن يحملوه إلى كنيستهما. ومن كثرة محبة هذين القديسين للبشر وإحسانهما، إذ رأوا مرض هذا السيد، ظهرا له في إحدى الليالي وقالا له: “يا إنسان، خذْ بعضاً من شعرات كوزما وبعد أن تحرقها وتطحنها تناولها مع قليل من الماء وستتعافى”. وعندما استيقظ تعجب متسائلاً عما عساه يكون معنى هذه الرؤية؟ أين سيجد كوزما ليأخذ منه الشعرات؟ إذ أنه أعتقد أن المقصود هو كوزما بالحقيقة إلا أنه كان هناك معنى آخر. فاسمعوا.
في تلك الأيام وقبل أن يأتي ذلك السيد إلى كنيسة القديسين ليسجد لهما، وهب أحد المسيحيين خروفاً للكنيسة ليذبحوه في عيديهما. وإذ كان هناك عدة أيام حتى يأتي يوم عيديهما، احتفظوا بالخروف في حديقة الكنيسة وبقي هناك لعدة أيام، وكان خدّام الكنيسة ينادونه تداعباً كوزما مطلقين عليه اسم القديس كوزما. من ذلك الخروف كان قصد القديس أن يأخذ بعض الشعر ويحرقها ويطحنها ويتناولها مع ماء. لكن السيد كان يتساءل عما يكون قصد تلك الرؤية غير عالم بوجود الخروف ولا بتسميته. والآن سنروي كيف رتب القديسان الأمر.
عندما شارف النهار على الانتهاء اتجه الخروف مُقاداً بنعمة القديسين ووقف أمام السيد صارخاً بصوت عظيم كصوت الخراف كما لو كان يريد شيئاً ما. عندها تعجب المرضى الآخرون وخدّام السيد إذ رأوا الخروف منزعجاً وصارخاً بهذا الشكل، ما عساه يعني هذا الأمر؟
عندما شارف النهار على الانتهاء اتجه الخروف مُقاداً بنعمة القديسين ووقف أمام السيد صارخاً بصوت عظيم كصوت الخراف كما لو كان يريد شيئاً ما. عندها تعجب المرضى الآخرون وخدّام السيد إذ رأوا الخروف منزعجاً وصارخاً بهذا الشكل، ما عساه يعني هذا الأمر؟
وبعد قليل جاءوا إلى هيكل الكنيسة وإذ بهم يجدون الخروف على نفس الحالة فسألوه: ما بك يا كوزما تصرخ هكذا؟ للحال لما سمع السيد كلمة كوزما روى رؤيته للحاضرين وهكذا أمسكوا بالخروف وقصوا بعض شعراته وبعد أن أحرقوها وطحنوها جيداً حسب وصية القديسين قدموها له مع قليل من الماء، وللتو – يا لعجائبك أيها المسيح الملك – تعافى هذا الإنسان وعاد إلى منزله ممجداً الله الصانع العجائب بواسطة قديسيه المؤمنين.
* * *
اسمعوا، أيها المسيحيون المباركون، عجائب أخرى عظيمة: كان أحد الأسياد الأغنياء من المشرق تقياً يخاف الله وكان مريضاً جداً في قلبه ومعدته منذ حداثته، وكان مرضه هذا عضالاً ولم يكن بمقدوره حتى أن يأكل أو يشرب. وإذ كان يتساءل ما الممكن عمله، كان في حالة اكتئاب وحزن شديدين، وكانت تعزيته الوحيدة الله. ولما لم يجد علاجاً لا في أي مكان ولا بأية طريقة اتجه إلى كنيسة القديسين وبقي هناك عدة أيام منتظراً من دون نتيجة، فظن أن رغبة الله ألاّ يشفى أبداً. ففي الليلة التي قرر فيها العودة إلى منزله، ظهر له في نومه إنسانٌ وقال له: “لا تسرع في العودة إلى منزلك بل ابقَ حتى الأحد القادم إن أردت أن ترى قوة الله ومجد القديسين ماقتَي الفضة الذائعَي الصيت. وعندما أتـى يوم الأحد، سجد المريض كعادته أمام أيقونة القديسين، فرأى بوضوح في منتصف الليل أن القديس كوزما الأخ الأكبر خرج من المذبح المقدس وأخذ يجول في الكنيسة كلها يزور المرضى المجتمعين فيها. أما إليه هو فلم يلتفت القديس على الإطلاق، فظن المريض أنه على الأقل سيراه لدى عودته، لكن دون جدوى. وعندما رأى المريض كيف أن القديس قارب على الدخول إلى المذبح المقدس مجدداً دون أن يلاحظه على الإطلاق، سقط على قدميه متضرعاً إليه لكي يشفيه، عندها قال له القديس: “خذْ هذه الحلوى وحالما تتناولها ستتعافى”. وبمجرد أن تناولها السيد من يدي القديس كوزما ارتمى أمامه قائلاً: “أرجوك يا قديس الله تضرع لأجلي لكي لا يعود هذا المرض ويزعجني”. عندها مدَّ القديسُ يدَه ورسم إشارة الصليب المقدس وقال: “باسم الله لا يعُدْ هذا المرض ويزعجك. لكن أوصيك بألاّ تتناول البقول طيلة حياتك”. وكان لدى هذا الإنسان مرض آخر إذ تنتابه آلام في الأسنان من الجهتين، فترجى القديس أن يشفيه من هذا المرض أيضاً. عندها قال له القديس: “يكفيك شفاء معدتك، أما هذا المرض الصغير فإرادة الله أن يلازمك، لأن من يحبه الله يؤدبه”. هكذا عاد السيد سريعاً بعد شفائه إلى منزله ممجداً الله ومعظماً هذين القديسين الشافيين ماقتي الفضة.
* * *
اسمعوا عجيبة أخرى سأرويها لمجد الله ولأكمل سيرة القديسين: أراد أحد الأسياد النبلاء الصالحين من “فرمان” أن يسافر إلى منطقة بعيدة لقضاء أعماله التجارية، فأخذ معه امرأته وتوجه إلى قبر القديسين. هناك بسط يديه تجاههما وقال: “أيها القديسان العادما الفضة العجائبيان، إني أترك زوجتي تحت رعايتكما هذه، فلتظللها نعمتكما إلى حين عودتي”. هذا ما قاله السيد وعاد إلى منزله موصياً امرأته ألاّ تصدق أيّ خبر عنه إن لم ترَ كتابته وخاتمه بالذات. قال هذا وانطلق في رحلته البعيدة. أما الشيطان عدو الحقيقة فقد حسد السيد لأنه أمّن زوجته للقديسين ورغب بأن يجعله يتألم ويفقد إيمانه، فماذا صنع؟ ابتكر مكتوباً وهمياً موجهاً من السيد إلى زوجته وختَمه بختم مزوّر. أما مضمون المكتوب فكان يوصي بأن تتوجه زوجة السيد لملاقاة زوجها على عجل. بعد أن جهّز الشيطان الماكر كل هذا، ظهر بهيئة ساعي بريد وجاء إلى المرأة مسلماً إياها الرسالة وخاتم زوجها. حالما رأت المرأة رسالة زوجها وتعرّفت على خاتمه قررت أن تذهب إليه برفقة المرسَل إليها طبعاً. لكن لاحظوا ماذا فعلت شفاعة القديسين. قاد الشيطان المتحوّل المرأة إلى جرف هائل بهدف أن يقتلها هناك، أما تلك المسكينة وهي على حافّة ذلك الجرف الهائل لم تكن قادرة على شيء سوى القول: “أيها القديسان الماقتا الفضة ساعداني أنا عبدتكما”. ّ يا للعجب! انتقلت المرأة للتوّ من الجرف ووُجدت في بيتها. هكذا تحررت من سلطة الشرير فمجدت وشكرت الله والقديسين العادمي الفضة كوزما ودميان. ولنقرأ أيضاً في كتاب النبي دانيال كيف انتقل النبي حبقوق من أورشليم إلى بابل لرؤية دانيال وهو في الجبّ.
* * *
في الزمان القديم كان من السهل أن يتقدس الناس، بينما في عصرنا الحاضر فإنه من الصعوبة أن نجد إنساناً فاضلاً. أيكون الله في الماضي هو غيره الآن؟ هل تغيرت السنوات والشهور والأيام والساعات؟ هل تحولت عناصر الطبيعة أو لربما سمعوا أولئك إنجيلاً غير الذي نسمعه نحن اليوم؟ لا، لا، كلها هي كما صنعها الله منذ البداية وهكذا ستبقى حتى نهاية الزمان. إذن ما هو السبب؟ لقد بدّلنا فكرَنا، قست قلوبنا، أخطأنا، لا يحثّ الواحد الآخر على الأعمال الحسنة، نسرق بعضنا البعض، نصنع الكثير ضد المسيح. قولوا لي بأية أعمال يمكننا أن نرضي الله؟ هل يحتمل أن ندعى أولاده؟ هل اقتدينا بالقديسين وظهرنا نحن بدورنا مستحقين للمسيح؟ بالطبع لا. لذلك أرجوكم من أجل محبة المسيح الذي صُلب لأجلنا، فلنهتم لنفوسنا التي لا يمكن شراؤها بكل خيرات الأرض، ولنتأمل دوماً بالمستقبل فنبتعد عن الأشياء الباطلة ولنطلب الأبديات. لا ننفقنّ حياتنا هائمين في بطلان هذا العالم بل لنوظفنّها للأعمال الصالحة. لا نتغافلْن عن الصالحات، لا نؤجلنّ عمل الصلاح الذي نريد أن نصنعه. فلنتذكر أن نعمل اليوم عملاً صالحاً إن كنا قادرين. لنصنعنّه اليوم إذ إننا لا نعلم ماذا يخبئ لنا الغد.
إلى متى سنبقى لامبالين بوصايا الله وكسالى في العمل بها؟ ألن نستيقظ من نومنا العميق الخمول. ألن ننتبه لنتعرف من هم أجدادنا وآباؤنا؟ أين هم الأسياد والملوك؟ أين هم أقوياء الأرض والأغنياء؟ أين المتكبرون والظالمون، السكارى والزناة وغيرهم؟ ألم يمرّ هؤلاء في العالم؟ ألم يفرحوا؟ ألم يعملوا مشيئتهم؟ لكن أين هم الآن؟ إنهم تراب فقط، عظام يابسة. ماذا استفاد أولئك؟ لا شيء. لم يربحوا شيئاً، لا بالغنى ولا بالأبنية البهية والحقول الواسعة والكروم المليئة.
لا يأخذ الإنسان معه بعد الموت شيئاً ليحاكم أمام الديان العادل إلا أعمال روحه الصالحة أو السيئة. أبديّةٌ هي الفضيلة، وما تبقّى كلّه ظلال ودخان وأحلام،. لذلك دعونا نعمل الصالحات لنرث الأبديات. إن حياتنا وقتية لكن حياتنا المستقبلية أبدية.
وفي النهاية فليسعَ كل مسيحي ليبنيَ مسكناً لنفسه. ليكن الاعتراف أساساً له وليحصّنْه بالفضائل ويوشخْه بنعمة الله. ما يريده اللهُ من الإنسان هو حسْن الاستعداد والباقي يكمّله الله. لا نظنَنّ أنه يمكننا إصلاح شيء دون مشيئة الله، لأنه “إن لم يبنِ الربّ البيت فباطلاً يتعب البناءون”. فليتحرك واحدنا باتجاه الآخر في عمل الصالحات، لكي نعبر حياتنا بفرح وسلام رافضين أي عمل شرير، عندها نكون مستحقين لملكوت المسيح، الذي يليق له كل مجد وإكرام وسجود إلى دهر الداهرين. آمين