لماذا يطرح هذا السؤال: هل من لزوم للكنيسة؟
ماذا يقول الناس؟
في ذهني صدى لكل ما يتردد في أذهان الناس، بعد أن جاءت موجات كثيرة إلى بلادنا مناهضة لطبيعة الكنيسة وماهيتها وحاجبة لهذا السر العظيم الذي يسمَّى الكنيسة. ولعل في طبيعة إنسان بلادنا شيئاً من الفردية بحيث يستغني عن الآخرين بسهولة، وهذا طبعاً جاء عند من أرَّخ في هذه المنطقة من العالم. الإنسان في هذا المشرق فردي. قد يريد التجمع والتكتل ولكنه، تاريخياً، ليس إنساناً متعاوناً. قد يحشر الإنسان مع الإنسان. قد يتراكم الناسٍ، ولكن التراكم لا ينشئ تعاضداً ولا ينشئ بالضرورة روحاً جماعية. ومن ذكر اسم الكنيسة يجيء على باله فكرة الشراكة والتآزر. إنسان بلادنا، إذاً أثار السؤال. ثم الموجات الفردية التي ظهرت عندنا في القرن التاسع عشر، وجعلت الناس ببساطة يتهامسون: لماذا أذهب إلى الكنيسة؟ لماذا كل هذا الشيء المسمى كنيسة؟ لِمَ لا أصلّي أنا وحدي إلى الله وحده؟ لِمَ لا أقبع في بيتي وأختلي إلى الله، إذ أستطيع أن أقرأ كتاب الله وأتفرّد به؟ لماذا كل هذا المشروع المسمّى الكنيسة المسيحية؟
ماذا يقول الكتاب المقدس؟
* شعب الله
ولكن، عودة إلى العهد القديم، مقدمة للعهد الجديد، نرى أن هناك ما يسمى كنيسة الله، وهذا وارد عندهم، أو جماعة الله. فإذا استنزل موصى وصاياه فإنما يقرأها على شعبه ويتجمع هذا الشعب حول كلمة الله، وكلمة الله تشكل لنفسها شعباً والله يخاطب شعباً. صحيح أنه ينشئ أنبياء ومعلمين ومرنمين ولكنه ينشئهم ضمن هذا الشعب المدعو إلى الخلاص. أي ليس في العهد القديم موقف فردي بحيث يقول النبي مثلاً: إني أنا قائم أمام الله ولا أسأل عن الآخرين، ولكنه يبلِّغ شعباً رسالة الله.
* المسيح مع شعبه
امتداد لهذا التعاهد نجد يسوع يحيط نفسه باثني عشر رجلاً.
ومنذ بدء بشراه نراه مع هذه الجماعة الرسولية. أي لا نرى مرة المعلم مفصولاً عن هذه الكتلة التي أنشأها داعية لإنجيله. ثم نراه مع السبعين. كذلك نراه يذهب إلى مجامع اليهود ويصلي فيها في كل سبت. أي أنه لا ينفصل عن الجماعة المؤمنة. وحيث يُقرأ الكتاب فهو هناك. وفي مجمع الناصرة يُدفع إليه سفر أشعياء فيتلوه. كذلك نراه في الهيكل: “أنا معكم في كل يوم في الهيكل”، وهدفه أن يدعو كل ذلك الشعب، ثم هدفه أن يدعو الأمم الوثنية فيطلق الاثني عشر، بعد قيامته، إلى العالم، وبكلمة أخرى أثناء وجود المخلص في البشارة لا نراه ينشئ ديناً فردياً يتعاطى فيه الناس تأملاتهم الخاصة ويقبعون في بيوتهم. هذا ليس له أثر إطلاقاً في حياة السيِّد. نعم نراه غير مرة يختلي إلى الله أبيه ويقضي الليل كله بالصلاة. ولكنه لا يختلي إلا لينطلق فيما بعد. بعد ليلة يقضيها في الدعاء يمشي على البحر أو يذهب من جديد للكرازة وشفاء المرضى. بعبارة أخرى، هذه الخلوات التي كان يقضيها مع أبيه كانت استعداداً ليعود إلى الجماعة.
* الجماعات الرسولية
ثم بعد موت المخلص نرى الرسل والنسوة مع مريم والأخوة مجتمعين في العلية. أي إنهم أدركوا أنهم جماعة وأنهم جماعة متحابة غير متفرقة. وعليهم، جماعة وكتلة واحدة، ينزل الروح القدس. وبعد هذا نراهم يمكثون سنين عديدة في فلسطين معاً. والشرَّاح يقولون لنا أنهم يظلون في بلادهم أكثر من عشر سنين قبل أن يتفرقوا، وفي هذه الأثناء تنشأ النواة الأولى لما صار فيما بعد الأناجيل المدوَّنة. ولكن كان لهم أن يستمروا في خبرة واحدة وأن يتفهموا ما قاله لهم المخلص وما أوحاه إليهم الروح. كان لا بد أن يتعاونوا كل تلك المدة وأن يقابلوا خبراتهم التبشيرية قبل أن يتفرقوا في الأمم. ثم نرى بولس يبرز شخصية فريدة في البدء مستقلة عن الرسل، إذ يظهر له الرب على طريق دمشق، وكان على غير اتصال مع الاثني عشر. ينفرد في ما دعي ديار العرب – ولعلها حوران – مدة ثلاث سنين. ثم يقول إني ذهبت إلى أورشليم لأتصل ببطرس ولم أر غيره من الرسل سوى يعقوب أخ الرب. ثم يقول أيضاً إني عرضت إنجيلي على المعتَبرين أعمدة لئلا أسعى أو أكون قد سعيت باطلاً. ومعنى ذلك أني ولو دعاني الرب لأبشر وكانت دعوته مباشرة، إلا أني، خشية أن أكون قد انحرفت عن الرسالة المشتركة وعلى رغم اقتناعي بأن الرب كلمني مباشرة، ذهبت إلى أورشليم حتى أمتزج بالجماعة وأتخذ بركتهم وموافقتهم على الطريقة وعلى المضمون اللذين كنت أبشر بهما. ثم بعد ذلك، نرى بولس بالدرجة الأولى وسواه من الرسل يؤسسون جماعات. كل هذه الكنائس المذكورة في العهد الجديد من أورشليم إلى أنطاكية إلى أفسس إلى فيليبي إلى أنطاكية الأخرى إلى رومية وإلى كريت، كل هذه الكنائس تحيا معاً.
* اجتماع يوم الأحد
وماذا يتم في كل جماعة من هذه الجماعات؟ ما هو الشيء الأساسي حتى تكون الجماعة مسيحية؟ وما هو هذا الشيء الفريد؟ نرى بولس ينشئ في كل مكان أساقفة أو قساوسة وشمامسة. إلا أنه بشكل واضح يقيم تيموثاوس مثلاً ويقيم طيطس. ونرى بعده صاحب سفر الرؤيا يتوجه إلى الكنائس السبع وإلى رؤسائها. ويتحدث بولس عن وضع الأيدي عما يسمَّى الآن شرطونيات أو رسامات أو سيامات. وتكون هذه الجماعة مرتبطة بشيئين بالأقل حتى تكون جماعة: مرتبطة أولاً بيوم الأحد، ويتحدث الرسول عن ذلك في رسالته الأولى إلى كورنثوس عندما يطلب إليهم أن يضعوا جانباً بعضاً من المال في أول الأسبوع، طبعاً وهو يوم الأحد، حتى إذا جاء يأخذ أموالهم إلى فقراء أورشليم. يوم الأحد هو يوم التجمع عندهم. نراه أيضاً في جزيرة بطمس عندما كتب يوحنا الحبيب رؤياه حيث قال: إن الرب اختطفه في رؤيا في اليوم السيدي (هذه ترجمة يونانية) أو في اليوم الرباني وهو يوم الأحد.
* عشاء الرب
ثم نراهم يقيمون شيئاً في يوم الأحد هذا، يقيمون عشاء الرب: “فإني أسلمكم ما تسلمته أنا أيضاً إن الرب في الليلة التي فيها أُسلم أخذ خبزاً وبارك وكسر وأعطى قائلاً خذوا كلوا…”.
الشيء الذي يميز أصحاب الدين الجديد هو أنهم يجتمعون في كل يوم أحد ليقيموا عشاء الرب، أي ليصبحوا هم مسيحهم. ما معنى: ليصبحوا هم مسيحهم. نجد في الأناجيل كلها ولا سيما في إنجيل يوحنا عبارات كهذه: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”. وكذلك في كل تعليم بولس: “أنتم جسد المسيح”. المسيح هو الرأس. عندنا هذه الرؤية أن المسيح واحد مع تلاميذه، وأنه لا يمكن التفريق بين السيد وأتباعه. وعندنا هذه النظرة الجديدة أن أتباعه يندمجون به إذا هم أكلوا من هذا الخبز وشربوا من هذه الكأس. والكلام مستفيض خلال الرسائل وخلال الإنجيل الرابع في المواعظ الشهيرة على الخبز السماوي، الكلام مستفيض على أن المسيح يقيم عرساً لنفسه مع أتباعه إذا هم أكلوا من هذا الخبز وشربوا من هذه الكأس. طبعاً علماء النفس المعاصرون يحدِّثونا عن أهمية الفم وكيف يكون الاتصال بالفم وما إلى ذلك. الأكل هو التعبير عن الحب. المشاركة دليل المحبة. هذا في كل الحضارات، وفي هذه المنطقة بالذات، حيث يقولون بيننا خبز وملح، وحيث الضيافة تبيد العداوة وتقرِّب بين الناس. الوحدة البشرية يعبَّر عنها في كل شعوب الأرض ولا سيما في هذا الشرق بالمؤاكلة وبالمشاركة بالطعام. هذه خلفية العشاء السري: هذا المخلص أراد أن يقيم لذاته استمراراً في التاريخ، في أزمنة البشر، استمراراً عن طريق طعام خاص يأكله أتباعه، وهذا الطعام يقول عنه هو أنه هو إياه. يقول إنهم إذا اجتمعوا وأخذوا هذه الخبزة فإنهم يتخذونه هو ويتّحدون به بعرس روحيّ. وطبعاً صورة الدم التي أعطاها عندما يقول: “هذا هو دمي”، صورة الدم مرتبطة بصورة العرس. هذا هو معنى الكأس: بالعرس ينتقل الدم إلى الدم. يقول الرسول: إنكم إذا أكلتم من هذه الخبزة تصبحون جسد المسيح. نحن جسد واحد لأننا نأكل من الخبز الواحد.
ماذا يعني هذا عملياً ؟
* لا بد أن يصيروا واحد
بالرجوع إلى كل سياق العهد الجديد، هذا الكلام يعني ببساطة كلية: أنتم في الدنيا مبعثرون. كلّ يتعاطى خطاياه، ولكلٍّ أنانيته. وبالتالي فأنتم مشردون في الدنيا ومتباعدون عن المسيح. ولكن إذا أدركتم بالوعي الروحي. بالتوبة، أنكم ينبغي أن تصبحوا لله فلا بد من أن تصيروا واحداً في الله. فإذا جاءكم الله، إذا نزل هو إلى قلوبكم تعودون جسماً لله أي تصبحون لله لأن الله ذاته ينسكب في قلوبكم.
* الله يسكن فينا
غريغوريوس بالاماس وهو قديس من القرن الرابع عشر، كان صراعه مع خصمه برلعام وهو راهب آخر تأثر بتعاليم غربية، كان غريغوريوس بالاماس يقول: نحن رهبان جبل آثوس عندما نستدعي الرب يسوع بالدعاء الشهير “أيها الرب يسوع يا ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”، عندما نستدعي المسيح، عندما نلفظ اسمه يأتي هو باسمه، أي أن اسمه يحمل إلينا حضرته. ليس من فرق بين اسم يسوع وحضرة يسوع. نتحد حقيقة به لأن الله علّمنا في الكتاب أن الثالوث القدوس يسكن فينا. فبالتالي نعمة الله إلينا هي حياة الله، هي امتداد الله، هي ما سمّاه آباؤنا ومن بعدهم غريغوريوس بالاماس الفعل الإلهي غير المخلوق. لن أتوسع في هذه التأملات اللاهوتية وهي عسيرة، ولكن ما أود فقط أن أحمله من هذا التراث هو أن الله يدخل حقيقة إلى قلوبنا ليس تخيلاً وليس انتقالاً ذهنياً ولكن بالحقيقة، أي نصل إلى وقت يصبح الإنسان فيه مشاركاً للطبيعة الإلهية كما يقول بطرس (2بطرس 4:1). شيء إلهي يقذف في النفس بحيث لا يبقى من فرق، بالحياة، بالمعايشة، بالذوق، لا يبقى من فرق بين الحياة التي فينا والحياة التي في الله. حياة الله ذاتها تنسكب فينا. والفرق بيننا وبين الله أنه خالق ونحن مخلوقون. ولكن ليس هناك من حياتين: حياة إلهية في الله قابعة في السماء وحياة فينا هي في اللحم. حياة الله التي تتحرك فيه، ما في جوف الله، إذا شئتم هذه الصورة، ما في جوف الله ينسكب كلياً في قلوبنا، فنتحد، وهذا هو العرس الإلهي.
هذه الصيرورة، هذه المسيرة إلى الألوهة الكاملة فينا، هذه المسيرة يعطيها العشاء السريّ أو القداس الإلهي.
* الأسقف والجماعة
ولكن القداس الإلهي تقيمه الجماعة ولا يقيمه فرد. هذه الجماعة يؤمّها الأسقف أو مندوبه الكاهن. ولكن في الأصل القداس يقيمه الأسقف، ولهذا ليس أحد متروكاً لمزاجه بأن يكون مع الأسقف أو لا يكون مع الأسقف. الأسقف قائم لأن الكنيسة قائمة. فهو إمامها، ولهذا لا يمكن لأحد أن يصلي مثلاً وراء كاهن مقطوع لأن القداس كله لا نعرف ما يجري فيه. القداس ضامنه الأسقف فقط واستمرار بركته على هذه الجماعة وعلى هذا الكاهن. ولذلك ليس متروكاً لحريتنا أن نقول أنا أطيع أو أنا لا أطيع. لا، أنا أحب الأسقف وأنا أطيعه ما دام مع الكنيسة هو وما دام مستقيم العقيدة. بعد ذلك أنا أناقشه ببنوّة. وقد ألومه، ويجب أن يصغي الأسقف إلى صوت الأتقياء. هو لا يصغي إلى صوت الوجهاء، لأن الوجيه التقي مقبول، والوجيه الفاسق مرفوض، الكنيسة ليست طائفة، ليست حزباً اجتماعياً، ليست كتلة بشرية فقط، هي امتداد المسيح، هي إطلالة المسيح إلينا. ومن أقيم في هذه الجماعة أيقونة للمسيح فأنا لا أستطيع أن أتجاهله إذا شئت أن أحيا روحياً.
* الجماعة تجتمع في مكان واحد
عندنا، إذن، مكان تجتمع فيه الجماعة وفيه تقيم عرسها مع المسيح. والجماعة تجتمع في مكان واحد، وهذا معطى في العهد الجديد. هذه العبارة في اليونانية “مكان واحد” هذه عبارة وثيقة الصلة وأساسية بكل مفهومنا للكنيسة كما ظهرت في الرسائل بنوع خاص. ولهذا، فالسؤال أذهب إلى الكنيسة أو لا أذهب إلى الكنيسة بات غير وارد، لأنك لا تستطيع أن تعيش بدون عشاء سريّ. تموت أنت روحياً بدون القرابين المقدسة. القرابين المقدسة يقول لنا العهد الجديد إنها تقام في مكان واحد، ولهذا لا مفر من أن تكون هناك حتى تكون مسيحياً. المحك الوحيد لمسيحيتي هو هذا: هل أنا في العشاء السري أو لست في العشاء السري ؟ وأما ما يقوله الناس من أني أنا إنسان عظيم وتقي وفاضل، ولكني أتنزه يوم الأحد مع عائلتي وأذهب إلى جبل لبنان أو إلى مكان آخر، هذا كلام فارغ، هذه شهادات براءة يعطيها الإنسان لنفسه كي يريح ضميره، ولكن ليس هذا بالبحث الرصين.
* المسيحي هو من يأكل العشاء السري
هذا غير قائم على الإنجيل. نحن لا نوزع براءات بالمسيحية على الناس. الإنسان المسيحي لا أجد له تحديداً كتابياً نصيّاً إذا شئتم إلا هذا: هو الإنسان الذي يأكل العشاء السري. ليس عندي تحديد آخر. الإيمان لا يمكن أن أعرفه وأن أمتحنه إلاّ إذا عبّر عنه بالمشاركة والاجتماع إلى الأخوة. ودليل ذلك أن الرهبان الذين كانوا يستوحدون أو يتوحدون أي يتنسكون في البراري خارج الأديرة كانوا يعودون من مغاورهم أو مناسكهم إلى ديرهم يوم الأحد حتماً ولم يكن لهم دليل على استقامة رأيهم إلا هذه العودة يوم الأحد إلى قداس الجماعة.
* المال في الكنيسة
انطلاقاً من هنا يُعمل كل شيء آخر. الأوقاف، المال، هذه كلها لا قدسية لها إلاّ إذا كانت موضوعة في سبيل اجتماع الإخوة في العشاء السري، إلاّ إذا كانت دعامة لعودة الناس إلى الكنيسة. أي بهذا المال نضمن راتب الكاهن ليقيم بلياقة وترتيب هذا القداس الإلهي. وإذا قامت طائفة لا تهتم لظهور الكاهن الورع المتروّض على الإنجيل، المغتذي بالمحبة، إذا كان لا همَّ لها لظهور رجل أو تبلور رجل كهذا فهذا يعني أنها لا تريد القداس الإلهي على أصوله مقاماً بتقوى وورع، ويعني أنها تقدس الأوقاف من أجل ذاتها لكي تكون هكذا موجودة وتفتخر بها هذه الطائفة.
إذا كانت أموالنا لا تنفق على تأليف جوقات ممتازة ولا تنفق على التعليم المسيحي وعلى تثقيف الأطفال والأحداث والبالغين حتى يجيئوا إلى العشاء السري، لأنهم يتعلمون التعليم المسيحي ليتمكنوا من الاجتماع إلى جسد الرب ودمه. وهذه هي الغاية الوحيدة. إذا كنا لا نعرف هذا فمعناه أننا نجزئ الأشياء وأننا ننسب القدسية لما ليس له قدسية. بعد ذلك إذا استهدفنا ذلك الاجتماع الأحدي في الكنيسة ينحدر كل شيء آخر من هذا. فلا بد أن يكون التعليم قويماً، ولذلك أن ننشئ أساتذة لاهوت وأساقفة لكي يسهروا على استقامة التعليم، لأن الإنسان إذا كان غير مستقيم العقيدة لا يحق له أن يأتي إلى العشاء السريّ. غاية التعليم ومدارس اللاهوت وما إلى ذلك هي أن تمكن هذا الشعب من صفاء إيمانه ومن صحة إيمانه لكي يكون مؤهلاً للاشتراك بجسد الرب ودمه. وإذا كانت هذه هي الرؤية الإنجيلية فمعنى هذا أن الكنيسة تنظَّم كذلك بهذا الهدف، وأنه لا يبقى مجال للتفرد بالرأي ولا يبقى مجال للانفراد عن هذه الكنيسة، إذ “حيث تكون الجثة فهناك تجتمع النسور“.
* الصلاة الفردية والصلاة الجماعية
فإذا أنت تغذيت من هذه القرابين وأصيغت إلى كل هذه الصلوات وارتفع قلبك بها وتطهر، فيمكنك أن تعود إلى بيتك وتختلي في بيتك ستة أيام. طبعاً على قدر ما تعمِّق صلاتك في بيتك فأنت بحاجة إلى الجماعة، وتعود إليها، ثم تجيء منها إلى بيتك، ولكن ليس من فاصل ممكن بين صلاتك في بيتك وصلاتك في الجماعة.
* نتكامل بالمواهب
هناك تغلُّب ممكن على الفردية، على هذا الانعزال الممقوت الذي يجعل الإنسان نفسه فيه، وهو أن ينفتح على الجماعة المؤمنة التي يتكامل وإياها.
إن الإخوة أساسيون لكي أتنفس. ليس أحد منا مقطوعاً هكذا من حجر وملقى وحده في الوجود. نحن أخوة، فهذا له موهبة وذاك موهبة أخرى. في الكنيسة هذا واعظ وذلك معلم وآخر مرتل والرابع عامل اجتماعي. كل منا له موهبة، ولكن نحن لا نكتمل إلا في هذا التلاقي الحبي العميق العظيم فيما بيننا. ولهذا إذا تكاملنا بالمواهب، بسبب اشتراكنا بجسد الرب، يبرز هذا الجسد الواحد الذي هو الكنيسة غنياً متشعباً. هذا الجسد الواحد يلتقط كل مواهب الروح القدس ويوزعها، وعندئذ تصح كلمة معلم: “بهذا يعرفون أنكم تلاميذي إذا كان لكم حب بعضكم لبعض“.
* من الكنيسة نذهب إلى العالم ومنه نعود إلى الكنيسة
ولكن هذه المحبة الأخوية تبدأ من الكأس المشتركة. فإذا نحن جئنا إليها نذهب منها إلى العالم ويصبح العالم كله مائدة الرب.
إن مائدة الإنسانية الواحدة يجب أن تقام في الكون. ولكن من الكنيسة نحن نذهب إلى الدنيا، وفي الدنيا نقف أمام مذبح الفقير كما قال يوحنا الذهبي الفم: لا تنسوا بعد تقديم قرابينكم أن هناك مذبحاً أعظم وهو مذبح الفقير. إذاً، نترجم مائدة الرب موائد محبة في المجتمع البشري الذي ننتمي إليه، وبعد أن نحقق المشاركة البشرية في المجتمع الوطني الذي ننتمي إليه نعود أيضاً إلى الكنيسة حاملين مساعينا معنا وبصورة أسرارية، بصورة الصلاة المشتركة، نقول للدنيا: المشاركة الحق هي المشاركة بجسد المسيح ودمه. فَمَن تركز على هذه المشاركة في القداس الإلهي ذهب على العالم ليقيم فيه شركة العدل والحب، وإذا نفَّذ شركة العدل والحبّ في المجتمع يعود ليصوِّرها بصورة أبهى في كنيسة الله.
المتروبوليت جاورجيوس خضر
هذا المقال هو نص محاضرة ألقاها سيادته في حمص السنة الـ1979
www.orthodoxonline.org