فيما نختتم مشهدًا طقسيًا ونستعدّ لدخول مرحلة التريودي في أحد الفريسيّ والعشّار، تنتصب أمامنا شخصية مذهلة في الإنجيل هي شخصية المرأة الوثنية الكنعانية الفينيقية التي لما علمتْ باقتراب السيّد في نواحي صور وصيدا خرجتْ إلى وجهه.
خرجت المرأة إلى الرب لأن قلبها كان إلى ابنتها وسمعت بأن نبيًّا جديدًا ظهر في إسرائيل يحنّ على المرضى. أتت وطلبت اليه أن ينحني على وضعها.
كلّمت المرأةُ يسوع فلم يُجبها لأن الكنعانيين كانوا نجسين في نظر اليهود اذ عبدوا آلهة كثيرة. ولما استنكف السيد عن تلبية دعاء الكنعانية، ظلّت تطلب حتّى أَلحّ التلاميذ عليه بالاستماع اليها، وإذ به يقول لها هذه الجملة القاسية: «أنا لم أُرسَل إلاّ للخراف الضالة من بيت إسرائيل». ومعنى ذلك أن المخلّص، في حياته بالجسد، كان ينبغي أن يحصر كرازته في حدود مَن عُرفوا بـ«المؤمنين بالله». وبعد موته وقيامته، تخرُج الرسالة من أورشليم إلى العالم من خلال التلاميذ. ولكنه هو لا يمسّ الوثنيين أثناء وجوده على الأرض ولا يتعاطاهم. بيدَ أنه إذا ما أُهرق دمه على الصليب وانفجر ضياؤه من القبر في اليوم الثالث، فإن النُّور سوف يأتي ويشمل العالم بأسره.
حاول السيّد أن يشرح ذلك للكنعانية، ولكنها ألحّت عليه أكثر فأكثر. قسا عليها أكثر وقال لها: «لا يؤخذ خُبزُ البنين ويُطرَح للكلاب». في العهد القديم «الكلاب» نعتٌ أُطلق على الذين لا يعبدون الله الواحد لأنهم نجسون. لا شك ان السيّد دخل في حوار سرّي مع الكنعانية. لا نعرف ما جرى بينهما بالضبط، ولكن ما نعرفه هو جواب المرأة لما قالت: «نعم يا سيّد، لكن الكلاب تأكل من فُتات الخُبز الذي يسقط من موائد أربابها». كأنها تقول: تريدنا أيها المعلّم كلابًا وتريد ربك ربًا واحدًا أحد، وتريد بني شعبك بنين وحدهم له. أنت على حق، وأنا أقبل ان أكون معدودة بين الكلاب. ولكنّكم اذا كنتم قريبين من هذا الإله وتتمتّعون بأنعامه وأفضاله وكلماته وتعزياته ووصاياه، إن كنتم متربّعين حول مائدة الرب وتتنعّمون وتُسرفون، تبقى كِسَرُ الخُبز، ونحن نرضى بها، نلتقطها عسى أن نُشفى.
علمَتِ الكنعانية أن الحياة عند هذا الرجل، وأن ابنتها المريضة بحاجة إلى الحياة، فسعت بكل جوارحها الى الحياة. نزلت إلى النهاية، إلى الأرض. انكسر قلبها كليًا وقبلت بذلك لعلّ ابنتها تُشفى.
ولما رأى يسوع هذه النفس العظيمة أمامه، كسر القانون. قلبه هو القانون. اجتاز الفاصل بين إسرائيل والوثنيين وخلّص الفتاة ارتقابًا لما سيتمّمه بآلامه وموته وقيامته.
إيمان هذه المرأة بالسيّد وُضع نُصب أَعيننا إذ ندخل الفترة الطقوسيّة الفصحيّة لنتمثّل بها فنجتاز الفاصل بيننا وبين يسوع. فإنْ كنّا من بين المتنجّسين بسبب تمكّن الأهواء من قلوبنا، فالمسيح أعظم من قلوبنا. قلب الله يتّسع لكل قلب، واذا انكسرت القلوب فإنها داخلة إلى قلب الله.
فلندخل إلى قلب الله مقتفين خُطى الكنعانية، عند ذلك، لنا جواب على كل مشاكلنا، ونكون عند ذلك في الحقيقة وفي النُّور الذي لا يعروه مساء ونحن في سلام.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
الرسالة: ٢ كورنثوس ٦: ١٦-١٨، ٧: ١
يا إخوة أنتم هيكلُ الله الحيّ كما قال الله: إني سأَسكُن فيهم وأَسيرُ في ما بينهم وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبا. فلذلك اخرُجوا من بينهم واعتزلوا يقول الرب ولا تَمَسّوا نجِسا، فأَقبلُكم وأكون لكم أبًا وتكونون أنتم لي بنين وبنات يقول الرب القدير. وإذ لنا هذه المواعد أيها الأحباء، فلنُطهّر أنفسنا من كل أدناس الجسد والروح، ونُكمّل القداسة بمخافة الله.
الإنجيل: متى ١٥: ٢١-٢٨
في ذلك الزمان خرج يسوع إلى نواحي صور وصيدا، وإذا بامرأة كنعانية قد خرجت من تلك التخوم وصرخت اليه قائلة: ارحمني يا رب يا ابن داود، فإن ابنتي بها شيطان يُعذّبها جدا. فلم يُجبها بكلمة. فدنا تلاميذُه وسألوه قائلين: اصرفها فإنها تصيح في إثرنا. فأجاب وقال لهم: لم أُرسَل إلا إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل. فأتت وسجدت له قائلة: أَغِثْني يا رب. فأجاب قائلا: ليس حَسَنا أن يُؤخذ خُبزُ البنين ويُلقى للكلاب. فقالت: نعم يا رب، فإن الكلاب أيضا تأكل من الفُتات الذي يسقط من موائد أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال: يا امرأة، عظيمٌ إيمانُك، فليكن لكِ كما أَردتِ. فشُفيَتِ ابنتُها من تلك الساعة.