في هذه الرواية المعروفة لكلِّ مهتم بالحياة الروحية من ناحية والتاريخية والإقتصادية من ناحية ثانية يورد الإنجيلي لوقا في النص آية يصف بها حالة رئيس العشارين زكا فيقول: “وكان يلتمس أن يرى يسوع من هو فلم يكن يستطيع من الجمع لأنه كان قصير القامة”. في هذه الآية توصف الرغبة التي امتلكت ذلك الإنسان ليعرف يسوع المسيح الذي يسمع عنه أشياء كثيرة، من هو الذي يقول ويعلِّم، ويستعمل الكتاب لا كالكتبة والفريسيين بل كمن له سلطان. فأولئك لم يستطيعوا أن يحركوا الروح فيه ولا روح التغيير، فقد تجمَّدَت التعاليم الإلهية عندهم الى قوالب وصارت مقاييس ومعايير لإستعباد الإنسان وقد صارت منفرة، وبسبب رغبته إمتلك العزيمة وبالعزيمة الإرادة فأخرج شهوته هذه أو أمنيته الى حيِّز الوجود من غير أن يمنعه أحد الوضعين اللذين كان بهما:
نظرة المجتمع إليه كعشار وتجنب الشعب من مخالطته.
والشيء الثاني وضعه كان انه قصير القامة وله من العمر سنوات ليست قليلة.
كل هذه الأشياء لم تمنعه لأنه سمع أنَّ هذا المعلم قد تجاوز كل حدود الناموس وحواجز المجتمع وها هو كمعلم للشريعة يخالط العشارين ويأكل مع الخطأة غامراً إياهم بمحبة تفوق كلّ محبة ويفضلهم على الكتبة والفريسيين. فتجاوز زكا ذاته ووضْعَهُ، وبحث عن إمكانية الوصول الى السيد الذي إشتاقت إليه نفسه كما تشتاق الأيائل الى موارد المياه. ونسيَ الجموع وكطفل بريء صعد الى الجميزة لينال مبتغاه. والرب يسوع يقول: “إن لم تعودوا وتصيروا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السموات”. إذا بالآية الأولى التي تصف وضع زكا الروحي مع فعل الصعود الى الشجرة نال الكرامة بأن يصبح الرب ضيفَه، ويفضلَه الرب على كل الذين كانوا ينتظرون منه أن يطلب هو منهم أن يستضيفوه ولم يحصلوا على كل شيء. ألا يقول الآباء إن خاطئ تائب أفضل من صديق متكبّر. علينا إذاً أن نمتلك فضيلة التواضع والبراءة ولا تُمتلك الواحدة دون الأخرى. المتواضع وحده يستطيع أن يتغلّب على كل شيء كما يقول القديس أنطونيوس.
يمرُّ الرب يسوع أمامنا وفي حياتنا مرّات كثيرة وبطرق مختلفة فهل نتمتع نحن بالمرونة الروحية والتواضع لكي نراه هو هو ولا نرى غيره. هل نستطيع أن نتجاوز الصعاب التي تفصلنا عنه ونزللها لأجل اللقاء به ليصبح بالنسبة لنا الألف والياء. هل نستطيع أن نرافقه متجاوزين كل رفقة وصحبة. عند ذلك نستطيع لا أن نصعد الى الجميزة فقط بل سنستطيع أن نصعد الى السموات. فالله هو الذي يقوِّينا ويدعوننا لا ليمكث فقط في بيوتنا بل ليمكث في قلوبنا ومشاعرنا ويمتلك علينا وجودنا. ولن يترك فينا أثراً لأي خطيئة وليس فقط نترك ونصلح ما قد تجاوزناه في حياتنا. ليكن أيها الإخوة لنا الرغبة بأن يكون الرب يسوع رفيق حياتنا لا شيء غيره ولنكن أقوى من كلّ مطربات العالم ومغرياته فكله يزول ويعسو وييبس وتذريه الريح. وليكن لنا زكاً مثالاً في القوة الروحية والعزم والتصميم وتحقيق صوت الضمير الذي يصرخ فينا في كلّ حين لنكمل مسيرة السيد التي تبنيناها في المعمودية ولا نعود نستعبد للخطيئة ولا للخوف ولا للوجل من أي شيء بل كما يقول الرسول بولس: “من يفصلنا عن محبة المسيح”. هكذا ليكن لنا التحدي ضد أي شيء يلهينا عن تبني الفضيلة وطريقها ليصبح لنا قول الرسول فعلاً صادقاً وحقيقة واقعة. ولننتبه ألا نحاور ذاتنا عندما تدعونا نفوسنا لعمل الفضيلة بل لنقم بذلك بكل سرعة وتلقائية، في مثل الاحسان، الصلاة، القيام بالأعمال الفاضلة الاجتماعية المذكورة في إنجيل الدينونة: “كنت جائعاً فأطعمتموني، كنت عرياناً فسقيتموني، كنت مريضاً فعدتموني، كنت محبوساً فزرتموني إلخ”. والرب معكم في بداية هذه الفترة الروحية للدخول في الصوم.
باسيليوس، مطران عكار وتوابعها
عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، الأحد 26/1/2014